تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من فساد البدن ما يذهب أثر تلك اللذة، إذ تفسد الآلة التي بها يباشر الإنسان اللذة فالفاسد من الأغذية يأتي على الأصل بالإبطال، فتقديم الفرع من اللذات العاجلة المؤقتة على ما يقترن بها من فساد للآلات البدنية أو العقلية، أو كليهما معا في أحيان كثيرة، تقديم ذلك الفرع مع ما يكتنفه من المفاسد على اللذات الآجلة الدائمة، مع خلوصها من الكدر، فلا يعقبها ما يعقب اللذة المؤقتة من ألم، ولو كانت مباحة، إذ لا تنفك أي لذة عن قسوة في القلب، وكثافة في الطبع، وفتور في الجسد، ولذلك شرع الصيام تنقية للنفس من تلك الشوائب، وتنشيطا لها من ذلك الفتور، تقديم تلك اللذة العاجلة على اللذات الآجلة الدائمة مئنة من فساد التصور، إذ قدم صاحبها فانيا تكتنفه المفاسد على باق قد خلصت فيه المنفعة، فلا تختلط بها أي شائبة تكدرها على صاحبها، فهي على حد النصح والإخلاص، ولكن النفوس لاستعجالها تحصيل المطلوب وجهلها بالمآلات لا تصبر على الثمرة الطيبة حتى تنضج، فتستعجل قطف ثمار اللذة، ولما تنضج.

وليس كل تخشع وتنسك وبكاء ونشيج جار على حد الديانة، بل غالبا ما يفتن أرباب البدع ممن غلب عليهم التنسك والرقة، بفساد العمل، على حد ما وقع لرهبان النصارى، فإنهم، لما أحدثه الزهد على غير هدى النبوات فخرجوا فيه عن حد الاعتدال بل عن حد العقل في أحيان كثيرة جعلت كراماتهم وخوارقهم أمرا يخجل منه صاحب كل عقل صريح وفطرة سوية، لما أحدثه هذا الزهد فيهم: تولد في نفوسهم من الرقة ما جعلهم أصحاب تنسك وتخشع، فقواهم الإرادية العملية كبيرة، وقواهم العلمية التي تسدد القوى العملية وتوجهها: ضئيلة بل فاسدة إذ وقعوا في أنواع من الضلال العلمي أخرجتهم عن دائرة دين المسيح عليه السلام التوحيدي، فصار دينهم التثليث، مع ما دخل عليهم من الفلسفات الرواقية التجريدية التي قابلوا بها إفراط أمة الروم، الأمة الظاهرة آنذاك ولما تدخل في النصرانية بعد، التي قابلوا بها إفراط تلك الأمة في تناول الشهوات، فغلوا في الجانب الآخر بهجر الملذات وإماتة الشهوات، وغالبا ما يؤدي ذلك إلى رقة في الطبع يغتر بها كثير من الناظرين في أحوال النساك، فيغفل عما هم فيه من فساد في العلم، فضلا عن فساد عملهم إذ لم تأت النبوات بتلك الفلسفات التجريدية التي تضاد السنن الكونية، وتؤدي حتما إلى انقراض البشرية، بتعطيل سائر المصالح الدنيوية، وقد يؤدي ذلك الزهد الغالي إلى وقوع صاحبه في ضده من الجنوح إلى معاقرة الشهوات على حد الإفراط، فمن غلو في التفريط إلى غلو في الإفراط، وهذا، أيضا، جار على حد ما تقدم من فساد القوى العملية الظاهرة فرعا عن فساد القوى العلمية الباطنة، وهو واقع كثير من رهبان وقساوسة النصارى في الماضي والحاضر ففضائحهم الأخلاقية قد صارت مضرب المثل، ومحل السخرية من رواد العلمانية الأوائل في أوروبا، فكان تسليط الضوء على تلك الفضائح الأخلاقية لأناس يدعون نيابة المسيح عليه السلام في الأرض، فيغفرون الذنوب، ويملكون أهل الأرض جنان السماء بعقود مكتوبة!، كان تسليط الضوء على تلك المهازل جزءا من مشروعهم العلماني الضخم لتقويض أركان الدين ممثلا في الكنيسة: العقبة الكئود في طريق تحرر العقل الأوروبي، فوفرت تلك الفضائح مادة دعائية أحسن العلمانيون استعمالها في تهوين أمر الدين وتحقيره في أنظار الشعوب التي استعبدتها الكنيسة قرونا برسم الديانة، وأربابها عند التحقيق من أهل الدياثة، وفي العصر الحاضر: اضطرت الكنيسة الكاثوليكية التي لم تع الدرس جيدا فسار الخلف على سيرة السلف في ارتكاب الفواحش المزرية، اضطرت إلى دفع تعويضات إلى ضحايا الجرائم الأخلاقية التي ارتكبها رسل الكنيسة!. وما خفي كان أعظم.

ومنشأ هذا الفساد، كما تقدم، من فساد الأصل الأول: إذ تولد من فساد المقالة العلمية: فساد في الطريقة العملية، وكل عقد أو حال خرج به صاحبه عن هدي النبوات، فادعى له حالا تخالف ما جاءت به من العقائد العلمية والأحوال العملية فهو مردود على صاحبه، على حد حديث عائشة، رضي الله عنها، مرفوعا: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير