تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فهذا حال العقل المسلم الذي ازدهرت الدراسات التجريبية في عصر نبوغه، والعقل الأوروبي الذي تدهور العلم التجريبي في عصوره المظلمة في القرون الوسطى التي كان التدين النصراني الأوروبي فيها مزدهرا، فاستقر في وجدان الأوروبي: وقوع التعارض حتما بين الدين والعلم، أو: الوحي والعقل، لا سيما، وأوروبا لم تتقدم يوما في ميدان التجريبيات في الماضي أو الحاضر، إلا في ظل علمانية وثنية صريحة كعلمانية أمة اليونان، أو علمانية نصرانية اسما بلا مسمى، كالعلمانية المعاصرة، فالدين فيها رسم بلا اسم، وهو مع ذلك: دين قد نالته يد التبديل والتحريف فلم يصل أوروبا يوما نقيا سالما من شوائب التحريف كما أنزل على المسيح عليه السلام، فقياس الوحي المحفوظ على الوحي المحرف بزعم أن كليهما عائق عن التقدم الحضاري، بمفهومه الضيق عند العلمانيين والمستغربين، وإغفال ازدهار العقل المسلم في ظل الكتاب المنزل في مقابل خمول العقل الغربي في ظل وحي الكنيسة المبدل، للتعمية على دور الدين الإسلامي في تحرير العقول، توطئة للتسوية بينه وبين دين الكنيسة فكلاهما عائق يجب إزالته لحصول التقدم!، ذلك القياس: قياس في غاية الجور والفساد، سوي فيه بين مختلفين أيما اختلاف: الوحي الصحيح المزكي للعقل، والوحي المبدل المعارض للعقل، فتلك إشكالية أوروبية لم تعرض للشرق المسلم ليضطر إلى استيراد علمانية الغرب، وإنما عانى العقل المسلم من ركود وجمود، لركونه إلى التقليد، فأهمل التجديد بمفهومه الصحيح في الشرعيات فضلا عن تراجع دوره تبعا لذلك في العلوم التجريبية، فالخمول العقلي يشمل كلا الأمرين، فعلاجه الرجوع إلى مقررات الوحي، فلا يصلح مسكن المدنية الحديثة لتسكين آلام مرض مستحكم في كل أمة قد أعرضت عن الوحي، كليا، كأوروبا التي كفرت به ابتداء فلم تستفد من ذلك المسكن إلا لذة وتنعما عارضا تتلهى به عن جوهر أزمتها الذي تظهر آثاره الأخلاقية والاجتماعية بارزة في واقعنا المعاصر، أو جزئيا كأمتنا التي نبذ فئام منها الوحي فاستبدلت نحاتة أذهان الأمم في التشريعات والنظم الاجتماعية والأخلاقية بمقررات الوحي المعصوم!، وليتها استبدلت تقدمهم في التجريبيات بالركود العلمي الذي تعاني منه في سائر علوم الطبيعيات، وهم أذكى من أن يهبوا أعدائهم خلاصة تجاربهم العقلية، وإن كانوا، باعتراف المنصف منهم، لم يحملوا أصولها إلا عن ذلك العدو الذي كان وجوده في حواضر كقرطبة وإشبيلية سببا في انتقال تلك البحوث إلى العقل الأوروبي المحمل آنذاك بآصار الكنيسة التي حجبت وسائل المعرفة عنه فاستأثرت بكل صورها حتى القراءة والكتابة لتضمن سيطرة أفكارها الظلامية على شعوب أوروبا إذ لا ينمو الباطل إلا في أرض لم تشرق عليها شمس النبوات.

والشاهد أن الحدود المنطقية التي وضعها الفلاسفة لرد عدوان المسفسطة قد غالت في التجريد طلبا لماهية الأشياء على وجه التحديد لرد غائلة المسفسطة المنكرين لحقائق الأشياء، فأنكرت التعريف بالمثال خارج الذهن مع أنه يكون في أحيان كثيرة، أدق وأيسر في تصور المعرف من الحدود المنطقية التي يصعب على غالب العقول فهم ألفاظها فضلا عن تصور معانيها فهي أشبه ما تكون بالألغاز.

وذلك، أيضا، مما لم يحتج إليه العقل العربي الذي ازدهرت في ظله العلوم التجريبية، وهي علوم تقوم على النظر في أحوال الأمثلة الخارجية، ودراسة مسالكها، لا إهمال ذلك والتركيز على البحث التجريدي المحض. فتصور الحقائق وتمييزها في العقل المسلم، بل في أي عقل سوي، يحصل بلا حاجة إلى تلك الحدود التي وضعت لتيسير تصور حقائق الأشياء فزادتها غموضا، فأنفقت أعمار وبددت طاقات طلبا لتصور حقائق هي من أوضح الواضحات كالإنسان الذي صار تصوره في معرض رد غائلة عدوان السفسطائيين على العقل اليوناني القديم، صار أمرا: عسير المنال إذ يجب حده حدا جامعا لأفراده مانعا من دخول غيرهم بإيراد الفصل بعد الفصل من قبيل: حيوان، وناطق ....... إلخ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير