تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والحدود الفلسفية لا تقدم إلا تصورات مجردة لا وجود لها في عالم الشهادة، فهي بذلك تعطل العقل عن النظر في الآيات الكونية التي كان النظر فيها أحد البراهين القرآنية في معرض تقرير ربوبية الباري، عز وجل، توسلا بذلك إلى تقرير العبودية والانقياد له على حد الإفراد كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

ويستفهم في هذه الحدود بـ: "ما" التي هي للماهية، كقولهم: ما الإنسان، فهي تأتي في الترتيب العقلي بعد: "ما" التي تكون لإيضاح الاسم دون بحث في حقيقته، إذا كان غريبا غير متداول كقولهم: ما العسجد؟، فتكون الإجابة: هو الذهب، فينتقل الذهن إلى الدرجة الثانية: هل الذهب موجود؟، فذلك استفهام بـ: "هل" البسيطة فلا يراد بها إثبات حكم غير حكم الوجود لذلك الشيء، فيقال نعم: فينتقل الذهن إلى الدرجة الثالثة: ما الذهب؟ مستفهما عن ماهيته بعد التأكد من وجوده فيكون الجواب: هو معدن أصفر اللون ........ إلخ، فذلك الحد الذي تجهد العقول وتشحذ الأذهان لوضعه على نحو دقيق جامع مانع، وكان يكفي المجيب أن يري السائل: قطعة من الذهب، فيتحقق التعريف بالمثال الخارجي دون حاجة إلى تكلف صياغة ذلك الحد الذي قد لا يتصور السائل به ماهية المسئول عنه، فبالمثال يتضح المقال، فهو في تعريف المحسوسات أيسر بكثير من الحدود المنطقية. فينتقل الذهن بعدها إلى المرحلة الرابعة وهي السؤال بهل المركبة التي تفيد التصديق بعد حصول التصور، كقولك: هل الذهب معدن نفيس، فيكون الجواب نعم فيثبت للذهب حكم النفاسة بعد حصول تصوره فيكون الحكم عليه فرعا عن تصوره، كما تقدم، وتلك خطوات عقلية صحيحة، ولكنها في نفس الوقت بدهية لا تتطلب كل هذا التأصيل، وإنما اضطر إليها اليونان، كما تقدم، كرد فعل لما قام به السفسطائيون من تخريب للعقلية اليونانية التي كانت، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، قد أتخمت بفلسفات وثنية بعيدة عن الوحي فضعفت مناعتها الفكرية فصارت عرضة لتلك الآفات العقلية التي يمجها أي عقل سوي، وإن لم يكن ذكيا مشتغلا بالنظر والتأمل. فهي على حد: تعريف الواضحات التي لا تحتاج إلى تعريف ابتداء فذلك من أعظم المشكلات!.

وصدق الشافعي، رحمه الله، إذ يقول: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس". اهـ

ويقال مرة أخرى: إن العقل المسلم الذي كفي مؤنة البحث فيما وراء الطبيعيات من الإلهيات والغيبيات السمعية، فتفرغ للبحث في الطبيعيات تقريرا لقضية الألوهية: القضية المصيرية الأولى في وجدان أي مكلف، واستنباطا لقوى الكون لعمارة الأرض في ظل سلطان الشرع، ذلك العقل ليس بحاجة إلى مقررات أفلاطون وأرسطو فضلا عن أن ينبهر بها، فيجعلها هي الأساس الذي يبني عليه علومه، بما فيها العلوم الشرعية على حد ما وقع من المعتزلة ومن تأثر بهم من المتكلمين الذين أقحموا الفلسفة في مسائل أصول الدين، وأصول الفقه لاحقا، وإن كان لكثير منهم دور بارز وقدم راسخة في أصول الفقه تحديدا فلا ينكر ذلك إلا جاحد، ولكن ذلك المزج بين العلوم الشرعية والعلوم الفلسفية على حد صارت فيه الرياسة للفلسفة والتبعية للدين تحت ستار العقلانية والموضوعية والتجديد .......... إلخ من المصطلحات المجملة الفضفاضة التي تحتمل حقا وباطلا، ذلك المزج: أدى إلى توعير طريق كثير من المشتغلين بتحصيل العلم بإنفاق الجهد والوقت في فك طلاسم متون قد ضغطت إلى حد الإلغاز والإبهام فضلا عما تتضمنه من معان مخالفة للوحي، وإن أراد مصنفوها نصرة الوحي وتأييده بما ظنوه براهين عقلية جازمة، وكأن الرسالة الخاتمة تفتقر إلى تلك البراهين حتى تستوردها من الأمم الأخرى، وهي التي وضعت بنصوصها المحكمة: أصول البحث العقلي الصحيح والجدال العقلي المفيد. فأقيستها من مثل عليا وطرد وعكس وتسوية بين المتماثلات وتفريق بن المختلفات وإلزام بالسبر والتقسيم ودلالات لزوم لا سيما في معرض تقرير مسائل الربوبية إثباتا للوازمها من أحكام الألوهية ......... إلخ مما يستحق الإفراد بالتصنيف فهو جوهر هذه الرسالة رسالة: (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ): فهدى بالأخبار، وبينات عقلية صريحة شاهدة بصحة تلك الأخبار وجريانها على سنن العقول الصحيحة التي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير