تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالأصل مدرك في عالم الشهادة، والفرع غير مدرك لكونه غيبا محضا يمتنع إدراكه في دار الابتلاء، فكيف يصح قياس غير متصور ابتداء على متصور مدرك في عالم الشهادة؟!.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الرسالة التدمرية":

"والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه فإن الله لا مثيل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يُشرَك هو والمخلوقات في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده؛ ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم: فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقة في الاسم". اهـ

وأما قياس الشمول فهو: القياس المركب من مقدمة صغرى جزئية وأخرى كبرى كلية فهو بمنزلة القاعدة الكلية التي يندرج تحتها أفراد جزئية.

فقياس الشمول: قياس جزء على كل، بخلاف قياس التمثيل فهو: قياس نظير على نظيره.

وقياس الشمول عند التحقيق ملازم لقياس التمثيل، وإن كان قياس التمثيل أكثر وقوعا منه في عالم الشهادة، إذ لا يحكم للنظير بحكم نظيره تمثيلا، إلا وقد تقرر في العقل سلفا كلية جامعة لهما يندرجان تحتها فهما جزءان من أجزائها فيثبت للجزء حكم الكل، ثم يقاس جزء آخر عليه، فقياس الشمول يسبق قياس التمثيل في الوجود الذهني، لأن قاعدته مستقرة في الذهن ابتداء، وهو في نفس الوقت مستنبط من مشاهدة الأفراد خارج الذهن، فكلاهما، كما تقدم، قد بني على الآخر، فالقاعدة قد أخذت من الأفراد بملاحظة القدر المشترك بينها، والأفراد قد حكم عليها بتلك القاعدة التي استنبطت منها ابتداء كما تقدم.

وقياس الشمول لا يفيد إلا علما ظنيا، ولذلك كان إفراط المناطقة في تقرير قياس الشمول، وهو الملائم لنظرتهم التجريدية، أمرا قليل الجدوى إذ لا يفيد علما يقينيا، مع أنهم ما وضعوا هذا العلم إلا لتحصيل اليقين بحقائق الأشياء ردا لتسلط السفسطائية، كما تقدم، فقرروا كليات جامعة بأخذ القدر المعنوي المشترك من الجزئيات المشاهدة، إذ نظروا في ذات زيد وعمرو وبكر .......... إلخ من أفراد النوع الإنساني، فوجدوا القاسم المشترك الأعظم بينها: الإنسانية، فجعلوها جنسا أعلى أو مشتركا معنويا متحققا في كل الأفراد المندرجة تحته، فلا يلزم من تصوره امتناع الشركه فيه، فهو أمر كلي مطلق في الذهن، يتحقق في كل فرد خارج الذهن على وجه لا يتصور استقلاله، فلا توجد إنسانية مطلقة، خارج الذهن، وذلك، كما تقدم، كان من أخطائهم في باب الحد، إذ افترضوا وجود هذه المثل والكليات مجردة خارج الذهن، فيوجد غضب ويوجد فرح ويوجد جوع ويوجد عطش ....... إلخ من الكليات خارج الذهن مطلقة بلا تقييد بموصوف تقوم به، وذلك أمر ظاهر البطلان، إذ لا يوجد في الخارج إلا غضب زيد وفرحه وجوعه وعطشه ...... إلخ، فغلوهم في تجريد المعاني ظهر أثره في التصور بالحد وفي التصديق بنسبة الأحكام إلى المتصورات بالقياس، إذ كان قياسهم المعتمد في هذا الباب: قياس الشمول.

ولا يلزم من تصور الكليات كما تقدم: امتناع الشركة فيها، ولذلك كان القول بالاشتراك المعنوي بين صفات الرب، جل وعلا، وصفات المخلوق التي يشتركان في ألفاظها من: علم وقدرة وسمع وبصر ....... إلخ، كان ذلك: من هذا الوجه صحيحا، فصفات الرب، جل وعلا، تشترك مع صفات المخلوق، في قدر معنوي يوجد في الذهن مطلقا فيتصوره دون أن يكون له وجود خارجه، على ما تقدم من امتناع وجود المطلقات من كل وجه خارج الذهن فذلك قول الفلاسفة في وصف الرب جل وعلا إذ عطلوه عن كل أوصاف كماله فجعلوه وجودا مطلقا خارج الذهن وذلك لا يكون إلا عين العدم، ولا يمكن فهم أي لفظ إلا بإثبات هذا القدر المشترك، وهو الواجب في باب الأسماء والصفات، إذ المؤمن يبحث في المعاني ليتدبرها فلا يكلف عقله تصور حقائقها فذلك على حد العلم أمر محال في دار الابتلاء، وإلا سقط الابتلاء بالإيمان بالغيب الذي تصور العقل معناه فهو غير محال، ولم يتصور كيفه، فهو محار، على ما تقدم مرارا من كون النبوات الهاديات إنما تأتي بما تحار العقول في حده ليتحقق معنى الابتلاء

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير