ومن ذلك أيضا: قياس نعيم الآخرة على نعيم الدنيا لمجرد الاشتراك في الأسماء: اشتراك المتواطآت في معانيها الكلية، فينفي المستدل كثيرا من هيئات ذلك النعيم الغيبي قياسا على هيئات النعيم المشهود، فالأول قد بلغ الغاية من الكمال، والثاني لا ينفك عن نقص ينغص على صاحبه.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في: "الرسالة التدمرية":
"فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات: من أصناف المطاعم والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبنًا وعسلًا وخمرًا وماء ولحمًا وحريرًا وذهبًا، وفضة وفاكهة، وحورًا وقصورًا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء] وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى". اهـ
فيقال إجمالا بأن السمة الغالبة على البحث المنطقي:
إهمال استعمال قياس التمثيل والغلو في تقرير الكليات الذهنية التي يدل عليها قياس الشمول، وذلك، أيضا، رد فعل لغلو السفسطائية في إنكار الحقائق الخارجية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك إجمالا.
وقياس التمثيل هو، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، الأقرب للعقل والفطرة، وهو الذي جاء به الوحي المنزل.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض ترجيح قياس التمثيل على قياس الشمول:
"وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ "قِيَاسَ التَّمْثِيلِ" أَبْلَغُ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ مِنْ "قِيَاسِ الشُّمُولِ" وَإِنْ كَانَ عِلْمُ قِيَاسِ الشُّمُولِ أَكْثَرَ فَذَاكَ أَكْبَرُ فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ فِي الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ كَالْبَصَرِ فِي الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ وَقِيَاسُ الشُّمُولِ: كَالسَّمْعِ فِي الْعِلْمِ الْحِسِّيِّ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْبَصَرَ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وَالسَّمْعَ أَوْسَعُ وَأَشْمَلُ فَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ: بِمَنْزِلَةِ الْبَصَرِ كَمَا قِيلَ: مَنْ قَاسَ مَا لَمْ يَرَهُ بِمَا رَأَى. وَقِيَاسُ الشُّمُولِ يُشَابِهُ السَّمْعَ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ". اهـ
وذلك التقرير المنطقي النظري لقياس الشمول في معرض إثبات الأحكام وهو الغالب على أصحاب المنهج الاستنباطي هو: ما نقضه أصحاب المنهج الاستقرائي إذ استعملوا قياس التمثيل لرصد الأمثلة خارج الذهن فيما يصح عمل العقل فيه من المشهودات الكونية، فبمجموع تلك المشاهدات توضع القواعد الكلية التي تشكل المقدمة الكبرى في قياس الشمول، فلا توضع القاعدة أولا: وضعا تجريديا مطلقا بلا أمثلة في عالم الشهادة ثم يبحث لها عن دليل، فذلك من التحكم بما لا يخفى، وهو يشبه إلى حد كبير طريقة الشافعية، رحمهم الله، في تدوين الأصول، بخلاف الأحناف، رحمهم الله، الذين عنوا بالنظر في الفروع استقراء قبل استنباط القاعدة الكلية الجامعة للأفراد، وإن لم يخل عملهم من نوع تكلف في الاتجاه المضاد لطريقة الأولين.
فالأمثلة في المنهج الاستقرائي عمدة في تقرير القواعد، إذ يأخذ الذهن منها، كما تقدم، كليات مطلقة، وإن لم تكن متساوية، فلا يوجد فردان من نوع واحد متساويان من كل وجه، وإلا صارا فردا واحدا، وهذا من المحال بمكان.
فالمشاهدة أمر قد سبق المسلمون، رواد العلم التجريبي في القرون الوسطى، سبقوا به العقلية الأوروبية فكان الإسلام يحض على النظر في الآيات الكونية التي توجد خارج الذهن مبثوثة في أرجاء الكون، وكانت المعركة في الطرف الآخر قائمة بين من ينكر وجود هذه الأمثلة ابتداء، فينكر التعريف بالمثال، إذ به تثبت الأعيان في الخارج، ولا حقيقة عنده لأي شيء!، بل الأمر نسبي، ومن غلا في تقرير الموجودات خارج الذهن حتى أثبت كليات مطلقة خارج الذهن، فمن غلو في إنكار حقيقة الأشياء إلى غلو في إثباتها جوز وقوعها خارج الذهن مع كونها مطلقة بشرط الإطلاق!.
&&&&&
والحاصل أن:
1_ قياس الشمول هو المطرد في كلام الفلاسفة على حد الغلو في مقابل الجفاء في قياس التمثيل لدرجة إبطاله وإبطال التعريف بالمثال خارج الذهن، وذلك أمر يضاد الفطرة التي تستدل على حكم الشيء بحكم نظيره.
¥