والعصيان، ويثبت ضد الوعيد إذا لم تتحقق علنه وتحققت علة ضده من التصديق والطاعة، وهذا أمر مطرد في كل وعد أو وعيد، فـ: (اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ): فكل من تحققت فيه علة المحبة من وصف الإحسان فهو داخل في حكمها طردا أو منطوقا، وكل من تخلفت في حقه علة المحبة وقامت به علة ضدها من البغض وهي: وصف الإساءة، فله ضد حكمها من البغض عكسا أو مفهوما.
وقد استعمله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث أبي ذر، رضي الله عنه، وفيه: "قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا"، فأثبت ضد الحكم بثبوت ضد العلة، فإن وضعها في حرام كان عليه فيها وزر فذلك الطرد، وإذا وضعها في الحلال كان له أجرا، فذلك العكس.
وتتبع مواضع الحذف في الكتاب العزيز لدلالة السياق على المحذوف، تظهر فيه صور من التسلسل العقلي البديع في إيضاح المعاني على أكمل الوجوه بأوجز المباني.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فَلِهَذَا كَانَتْ الْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ تُحْذَفُ مِنْهَا الْقَضِيَّةُ الْجَلِيَّةُ لِأَنَّ فِي ذِكْرِهَا تَطْوِيلًا وَعَيًّا وَكَذَلِكَ ذِكْرُ النَّتِيجَةِ الْمَقْصُودَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُعَدُّ تَطْوِيلًا. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} مَا أَحْسَنَ هَذَا الْبُرْهَانَ فَلَوْ قِيلَ بَعْدَهُ: وَمَا فَسَدَتَا فَلَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَكَانَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْغَثِّ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ بَلَاغَةَ التَّنْزِيلِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ تَأْلِيفِ الْمَعَانِي فِي الْعَقْلِ". اهـ
وقال في معرض بيان الوسيلة القرآنية:
"فَإِنَّ الْوَسِيلَةَ الْقُرْآنِيَّةَ قَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّهَا فِطْرِيَّةٌ قَرِيبَةٌ مُوَصِّلَةٌ إلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ، (أي: المنطقية) قِيَاسِيَّةٌ بَعِيدَةٌ؛ وَلَا تُوَصِّلُ إلَّا إلَى نَوْعِ الْمَقْصُودِ لَا إلَى عَيْنِهِ". اهـ بتصرف
وقال في "دقائق التفسير":
"ومن محاسن لغة العرب أنها تحذف من الكلام ما يدل المذكور عليه اختصارا وإيجازا لا سيما فيما يكثر استعماله".
فالاختصار لدلالة السياق على المحذوف اقتضاء جار على الأصول العقلية الصريحة.
فضلا عن دلالة السبر والتقسيم وهي استقراء عقلي بديع لأوجه القسمة العقلية في معرض استنباط العلة، أو تقرير حكم المسكوت عنه باستقراء أحكام المذكورات، فيثبت له ضدها، كما في قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ)، فلما استوفى السياق شطرين من القسمة الثلاثية، دل السياق بمفهومه على دلالة الشطر الثالث المحذوف، فللمسألة ثلاثة أوجه عقلية: أن يكونوا قد خلقوا من غير شيء، أو يكونوا هم الخالقين، أو يثبت أنهم كغيرهم مخلوقون مربوبون لله عز وجل. فأبطل التنزيل الاحتمالين الأولين، وسكت عن الثالث لبداهته فهو المكمل للقسمة العقلية الثلاثية آنفة الذكر.
وتتبع مواضع الحذف إيجازا في التنزيل زاد نافع في هذا الباب الجليل.
والنبوات قد كفت وشفت في هذا الباب كفايتها وشفائها في كل مسائل الدين: أصولها وفروعها فأغنت متبعها بكمال علومها عن الحاجة إلى أي علوم أخرى في معرض تقرير الإلهيات التي تحصل بها السعادة في الدار الأولى والنجاة في الدار الآخرة، فنسبة علومها، كما يقول بعض أهل العلم، إلى بقية العلوم: كنسبة غير المتناهي إلى المتناهي، فإنها أتت بأخبار وأحكام لا يستقل العقل البشري بدركها لقصور قواه المخلوقة عن ذلك.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 12 - 2009, 08:35 ص]ـ
ومن تعريفات الفلسفة:
تعريف ابن سينا للفلسفة بقوله: "هي الوقوف على حقائق الأشياء كلها على قدر ما يمكن الإنسان أن يقف عليه".
¥