تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإن الوصول إلى حقائق الطبيعيات مع كونها مشاهدة مدركة بالحس الظاهر أمر اعترف علماء الطبيعيات باستحالته على وجه التحديد فليس ثم إلا التقريب، ودراسة كائن كالإنسان بكل ملكاته الجسدية والنفسية المعقدة خير شاهد على ذلك، فلا زالت آيات الرب، جل وعلا، فيه تتبدى يوما بعد يوم، على حد قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، فجاء الفعل على حد المضارعة المصدرة بالسين التي تمحضه للمستقبل القريب مئنة من تجدده.

وتعريف بعضهم الفلسفة بأنها: "معرفة الإنسان نفسه".

وتلك معرفة نسبية إذ تتباين مع كون محل البحث فيها مدركا بالحس وهو الإنسان، فالعقول التي تبحث متباينة، وأدوات البحث تختلف باختلاف العصور ومدى التقدم التقني الذي بلغته، فلا تتلقى الحقائق على سبيل الجزم إلا من النبوات لمكان العصمة المؤيدة بالوحي، فموضوع النبوات الرئيس: الإلهيات، إذ هي مما لا يقبل التفاوت في نفس الأمر فالحق فيها واحد لا يتعدد، وإن تفاوتت العقول في إدراكه فذلك لا يعني تعدده في نفس الأمر بل كل مكلف يدرك من العلم بقدر طاقته العقلية سواء أكان ذلك في الغيبيات أم في الطبيعيات ومن رحمة الله عز وجل أن جعل أصل الاعتقاد المنجي واحدا تتساوى في إدراكه جميع عقول المكلفين فلا يحصل التضارب العقلي بين أبناء البيت الواحد في تفسير معنى الشهادتين وإن عجزت الألسنة عن حدها حدا علميا دقيقا على طريقة أصحاب الحدود الجامعة المانعة، فكلٌ يدرك أن الرب جل وعلا واحد متصف بصفات الكمال المطلق وهو الرب الرازق المحيي المميت وقد أمرنا بعبادته على وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الوحي قرآنا وسنة ولا تجد مثل هذا الإحكام والبساطة في نفس الوقت في بقية مقالات الأمم فإنها لا بد أن تحوي تأويلات متكلفة لأقوال يكفي لإبطالها فرضها عقلا فمجرد العلم بها وبلوازمها كاف في الجزم ببطلانها ولعل مقالة التثليث التي تخالف كل البدهيات العقلية خير شاهد على ذلك ولا يشفع لأصحابها الزعم بأن الإيمان لا يكون إلا بتمام التسليم، فتلك دعوى مدخولة من جهتين:

من جهة أن التسليم إنما يكون لنص صحيح النقل ولا إسناد لتلك المقالة بل إن الثابت أنها إنما فرضت على طوائف النصارى جبرا بحد السيف في مجمع "نيقية" سنة 325 هـ، بعد رفع المسيح عليه السلام بنحو ثلاثة قرون!، فليس لها حظ من النقل.

ومن جهة أن العقل يسلم لما يحار في كيفه لا بما يحكم بقياسه الصريح باستحالته، فالرسل عليهم السلام قد أتوا بما حارت فيه العقول لا بما أحالته، فلا يعارض الوحي الصحيح العقل الصريح، وإنما يزكيه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، فتلاوة الآيات: نقل صحيح، والتزكية معنى عام يشمل سائر المحسوسات والمعقولات والعقل الصريح منها، فالنقل الصحيح مزك له، فتزكية الوحي: تزكية أديان وأبدان، تزكية قلوب وعقول، ولا يمكن أن ينقض النقل الصحيح قياس العقل الصريح إذ كلاهما من الرب جل وعلا، فمن خلق العقل هو الذي أرسل إليه رسول النقل ليزكيه لا ليبطل عمله بتعليق نجاته على قبول ما ينكره قياسه الصريح الذي ركب فيه، وذلك أكبر دليل على كون النبوات عموما والنبوة الخاتمة خصوصا هي أفضل طريق للمعرفة الصحيحة، إذ لم تحقر من شأن العقل، ولم تخض معركة كتلك التي خاضتها الكنيسة مع المنهج التجريبي الذي أرسى قواعده العلماء المسلمون ولم تحتج إلى محاولات توفيقية هي عند التحقيق تلفيقية بين الوحي والعقل الصريح، فإن التلفيق إنما كان لأن أصحابه راموا الجمع بين العقل الأرسطي والنقل النبوي، لا بين العقل الصريح والنقل الصحيح، وأرسطو اعتمد العقل دليلا أوليا في باب الإلهيات مع أنه لا يدركه أصلا إلا على سبيل الإجمال فلا بد له في البيان من توقيف الوحي، بل إنه في عالم الشهادة يفتقر إلى التوقيف في غيوب جزئية فلا يعلم ما يجري في مكان غير مكانه إلا بخبر صادق، فكيف بالإلهيات أشرف وأعظم مسائل الغيب التي جلت عن إحاطة العقول بها في عالم الشهادة، بل إن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير