فالفلاسفة على ما هم عليه من ضلال في تقرير النبوات التي جعلوها ملكة مكتسبة مقرون بأن أعدل النواميس هو: ناموس النبوات عموما والنبوة الخاتمة خصوصا، فلا يجد المكلف، كما تقدم، في مواضع كثيرة، غضاضة من تصديق أخبارها الغيبية وامتثال أحكامها الشرعية.
وعرفها بعض الفضلاء المعاصرين بقوله:
"كل تفكير عقلي خالص مجرد كلي نظري في قضية من قضايا الوجود أو المعرفة أو القيم".
فهو تفكير عقلي استنباطي لا عملي استقرائي، فإن العالم التجريبي يستعمل في بحثه أدوات أخرى غير العقل، إذ مجال بحثه: الطبيعيات التي يستلزم رصد ظواهرها المحسوسة آلات ميكانيكية، بخلاف الفيلسوف الذي يبحث في الكليات النظرية، فميدان بحثه لا يتطلب رصدا لظواهر كونية، وإنما ينظر في أمور مجردة.
وهو يدعي قدرته على الوصول إلى حقائق الأشياء بهذه الدراسة التجريدية بخلاف العالم التجريبي الذي يقف على ظواهرها بالرصد والتحليل، وهي دعوى تردها حيرة كثير من الفلاسفة لا سيما فيما وراء الطبيعيات من الإلهيات كما تقدم من كلام ابن رشد، رحمه الله، وهو ممن خبر أقوال الفلاسفة، فله من الدراية بها ما ليس لغيره.
والتعريف يشمل نطاقات بحث الفيلسوف:
الوجود: وهو يشمل القضايا العقدية من قبيل وجود الله، عز وجل، وصفاته ...... إلخ من مباحث الإلهيات التي لا تتلقى إلا من قبل الوحي كما تقدمت الإشارة إلى ذلك مرارا.
والمعرفة: فتقدم نظريات للمعرفة لا يمكن أن تصل إلى درجة اليقين لا سيما فيما وراء الطبيعيات، فالنبوات، أيضا، أمكن منها في هذا النطاق فمدارك اليقين فيها أصح وأكثر.
والقيم أو الأخلاق: وهي التي تندرج تحت ما عرف بـ: (الحكمة العملية)، وتتسع دائرتها لتشمل سياسة الأمم، فالأخلاق سلوك عملي خاص، والسياسة: سلوك عملي عام يضبط علاقات الأفراد داخل الجماعة الواحدة، ويضبط علاقات الجماعات الإنسانية مع بعضها البعض.
وكلها، كما تقدم، نطاقات كلية لا يمكن للعقل البشري أن يستقل بتقريرها إذ لو صح ذلك لصح استغناؤه عن النبوات.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "الجواب الصحيح":
"وأما العقليات فإنما يعظم كلام هؤلاء الفلاسفة في العلوم الكلية والإلهية من هو من أجهل الناس بالمعارف الإلهية والعلوم الكلية إذ كان كلامهم في ذلك فيه من الجهل والضلال ما لا يحيط به إلا ذو الجلال وإنما كان القوم يعرفون ما يعرفونه من الطبيعيات والرياضيات كالهندسة وبعض الهيئة وشيئا من علوم الأخلاق والسياسات المدنية والمنزلية التي هي جزء مما جاءت به الرسل واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم من هؤلاء بالعلوم الإلهية والأخلاق والسياسات فضلا عما وراء ذلك"
فعلوم الأنبياء عليهم السلام ولو بعد تبديلها أصح من علوم أولئك التي لا أثر للنبوات فيها، فما ظهرت فيه آثار نبوة ولو باهتة خير مما لا أثر للنبوة فيه ابتداء، وذلك من بركة النبوة إذ كلما اقترب المستدل منها كلما كان تصوره أصح وحكمه أدق.
والشاهد مما تقدم أنه: لا يمكن الاعتماد على العقل في تقرير الإلهيات والحكميات على سبيل الاستقلال إذ قد فشل فيما هو أهون من ذلك فلم يستطع إدراك حقائق الطبيعيات على حد الجزم واليقين، وإنما علمه بها يتغير يوما بعد يوم فكيف يؤمن جانب من هذا حاله في تلقي أمر مصيري كالعقود الإيمانية القلبية والأحكام الشرعية العملية والأخلاق والسياسات، فلازم ذلك تبدل الشرائع تبعا لمقررات معامل البحث التي تطل علينا كل يوم بالجديد!.
والخلط بين الإلهيات والطبيعيات وتصور استقلال العقل في الإلهيات فرعا عن نبوغه في الطبيعيات فيأنف أن يخضع لمقررات الوحي إذ قد بلغ الذروة في أمور الكون مع أنه عند التحقيق لم يصل إلى الحقيقة المطلقة، ذلك الخلط هو الذي أغرى العقل باقتحام دائرة اختصاص الوحي فنازعه الحكم والتشريع لمجرد أنه نجح في دائرة اختصاصه، فلو وفر طاقاته لها لكان خيرا له من أن يبددها فيما لا مطمع له في دركه على سبيل الاستقلال من أمر الوحي فهو، كما تقدم مرارا، خارج نطاق عمله.
¥