تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولهذه المقالة تبعة عقدية جسيمة لمن تأملها فإن أرباب الطريق الذين غلوا في مقام الفناء، فانتحلوا مقالة: الفناء الوجودي في ذات الله، عز وجل، وهي مقال أهل الاتحاد، فصارت الفلسفة، وقد امتزجت بالزهد في كلام المتأخرين المترسمين برسم أهل الطريق كالسهروردي المقتول وابن عربي الطائي، صارت محاولة التخلي من أوصاف الخلق والتحلي بأوصاف الحق، فينخلع السالك من أوصاف الخلق الكثيفة إلى أوصاف الحق اللطيفة، وذلك أمر مؤداه الوقوع في الفناء الوجودي، إذ ينخلع صاجبه من مرتبة العبودية ليحاكي مرتبة الربوبية، وذلك أمرقد سرى إليهم، كما تقدم، من مقالة الفلاسفة الذين عرفوا الفلسفة بقولهم: التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.

ولعل قول الجرجاني رحمه الله في آخر تعريفه "والتجرد عن الجسمانيات": يشير إلى الفناء الذي غلا أرباب الطريق في تقريره إذ ينخلع المريد من جسمانيته الكثيفة ليتحد بذات الرب، جل وعلا، اللطيفة، وهو معنى ظاهر البطلان يلزم منه وصف الرب، جل وعلا، بصفات النقص البشرية.

وقاربهم الغزالي، رحمه الله، لما جعل ذلك من باب التخلق لا التشبه، فيتخلق بأوصاف جلال الرب، جل وعلا، في مواضع الجلال، ويتحلى بأوصاف جماله في مواضع الجمال.

قال، رحمه الله، في "إحياء علوم الدين":

"فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية، حتى قيل تخلقوا بأخلاق الله، وذلك في اكتساب محامد الصفات التي هي من صفات الإلهية العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على الخلق والنصيحة لهم وإرشاداهم إلى الحق ومنعهم من الباطل، إلى غير ذلك من مكارم الشريعة. فكل ذلك يقرب إلى الله سبحانه وتعالى". اهـ

وذلك أمر مجمل يرد عليه أن من أوصاف الرب جل وعلا ما لا يجوز للعبد أن يتصف بها كصفة الكبرياء والعظمة والجبروت، فإن اتصافه بها مع ضعفه مفسد لحاله، والنظر في مآلات طواغيت وجبابرة البشر في كل عصر ومصر خير شاهد على ذلك.

مع أن لقائل أن يقول بأن ذلك قد يصح في مواضع كثيرة، فالكرم من صفات جمال الرب، جل وعلا، التي دل عليها اسمه: "الكريم" دلالة تضمن فهي المصدر له من جهة الاشتقاق اللفظي، والتخلق بهذا الخلق من العباد: ممدوح شرعا، بل لا يكون قيام لهذا الدين إلا بالكرم والشجاعة، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم، والقوة من صفات جلال الرب، جل وعلا، واتصاف المكلف بها في الحق أمر ممدوح شرعا، بل قد أشارت ابنة شعيب عليه السلام على أبيها أن يستأجر الكليم عليه السلام لما رأته من قوته وأمانته فـ: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، فصح التخلق بأوصاف جمال كالكرم وجلال كالقوة يشترك الخالق، عز وجل، والمخلوق في أصلها أو معناها الكلي المشترك، فليس الكرم كالكرم وليست القوة كالقوة وإن اشتركا لفظا وتواطآ معنى فذلك أمر بدهي إذ بينهما من القدر المشترك ما يدرك به المخاطب مراد المتكلم، ومن القدر الفارق ما بين ذات الرب، جل وعلا، القدسية وذوات المخلوقات الأرضية، وذلك من الأصول التي أشار إليها أهل العلم في هذا الباب الجليل، والشاهد أن ذلك مما يستدل به من أجاز التخلق بأخلاق الله، عز وجل، فهذا وجه صحيح، وهو ما أشار إليه الرازي، رحمه الله، في تفسيره، في معرض الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية تحلي العباد بأوصاف للرب، جل وعلا، فيجوز لهم التحلي بها على الوجه اللائق بذواتهم، للفارق الآنف الذكر بين: ذات الرب جل وعلا، وذوات المربوبين، فمن ذلك قوله:

" ثم قال تعالى: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر} واعلم أنه تعالى أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء: أولها: بالعفو عنهم وفيه مسائل.

المسألة الأولى: أن كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى، قال عليه السلام: "تخلقوا بأخلاق الله" ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله". اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير