فالعفو من صفات الله، عز وجل، التي يجمل بالعبد أن يتحلى بها، فهي صفة جمال لا تزيد صاحبها إلا عزا، كما في حديث أبي كبشة الأنماري، رضي الله عنه، مرفوعا: "وما زاد الله عبدا بعفو إلا عِزا"، ويرد على ذلك أن وصف الأخلاق وصف لم ترد به النصوص، إذ الحديث باطل كما تقدم، والباب توقيفي محض فيتوقف فيه عند لفظ الوحي، فالرب، جل وعلا، أعلم بأوصافه، وما يليق في حقه من الأسماء والأوصاف وما يجوز إطلاقه عليه من الألفاظ.
ويرد عليه أيضا إطلاقه، رحمه الله، في قوله: "كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله"، فذلك الإطلاق لا يصح في الصفات التي اختص بها الرب، جل وعلا، نفسه، كالكبرياء والعظمة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، مع أن من المواضع ما يصير فيه الكبر محمودا على حد قول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رأى أبا دجانة، رضي الله عنه، يمشي مختالا بين الصفين: "إِنَّهَا مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ".
ولكن تلك مواضع بعينها، فهي بمنزلة الاستثناء من القاعدة فلا يقاس عليها ليصح القول باطراد اتصاف العبد بذلك الوصف الذي هو من أخص أوصاف الرب، جل وعلا، بل هو مقيد بسببه من التقاء الصفين الذي يحسن فيه إظهار العزة إرهابا للعدو، فيدور معه وجودا وعدما، فمنى كان قتال: كان محمودا، ومتى لم يكن كان كبرا مذموما، فلو صح اتصاف العبد به فهو اتصاف مقيد بخلاف اتصاف الرب، جل وعلا، به فهو اتصاف مطلق فله الكبرياء على حد الاستغراق لكل أنواعه لدلالة: "أل" الجنسية الاستغراقية لأنواع ما دخلت عليه.
وقال بعض أهل العلم كابن برجان رحمه الله: إن ذلك إنما يكون بالتعبد إلى الله، عز وجل، بها، فيتعبد بأوصاف جلاله رهبة من وعيده، ويتعبد بأوصاف جماله رغبة في وعده.
قال ابن تيمية، رحمه الله، في "الصفدية":
"ولهذا عدل أبو الحكم بن برجان عن هذا اللفظ إلى لفظ التعبد ............. فإن من أسمائه وصفاته ما يحمد العبد على الاتصاف به كالعلم والرحمة والحكمة وغير ذلك ومنها ما يذم العبد على الاتصاف به كالإلهية والتجبر والتكبر وللعبد من الصفات التي يحمد عليها ويؤمر بها ما يمنع اتصاف الرب به كالعبودية والافتقار والحاجة والذل والسؤال ونحو ذلك وهو في كل ذلك كماله في عبادته لله وحده وغاية كماله أن يكون الله هو معبوده فلا يكون شيء أحب إليه من الله ولا شيء أعظم عنده من الله ويكون هو إلهه الذي يعبده وربه الذي يسأله فيتحقق بقوله: إياك نعبد وإياك نستعين". اهـ
وقال ابن القيم رحمه الله: الأولى أن يتوقف في ذلك على النص الشرعي، وقد جاء بالدعاء بها، كما في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).، فجاء الأمر مصدرا بالفاء التي أشربت معنى السببية وإن لم تكن نصا فيها، فإذ ثبت أن له الأسماء الحسنى فذلك الخبر من قول الرب جل وعلا، فتأويله من فعل العبد: دعاؤه بها.
يقول، رحمه الله، في "مدرج السالكين" محررا الخلاف بين أهل الحق وأهل الباطل في هذا الباب:
"وهذا موضع يتوارد عيه الموحدون والملحدون:
فالموحد يعتقد أن الذي ألبسه الله إياه هو صفات جمل بها ظاهره وباطنه وهي صفات مخلوقة ألبست عبدا مخلوقا فكسى عبده حلة من حلل فضله وعطائه.
والملحد يقول كساه نفس صفاته وخلع عليه خلعة من صفات ذاته حتى صار شبيها به بل هو هو ويقولون الوصول هو التشبه بالإله على قدر الطاقة وبعضهم يلطف هذا المعنى ويقول بل يتخلق بأخلاق الرب ورووا في ذلك أثرا باطلا: (تخلقوا بأخلاق الله).
وليس ههنا غير التعبد بالصفات الجميلة والأخلاق الفاضلة التي يحبها الله ويخلقها لمن يشاء من عباده فالعبد مخلوق وخلعته مخلوقة وصفاته مخلوقة والله سبحانه وتعالى بائن بذاته وصفاته عن خلقه لا يمازجهم ولا يمازجونه ولا يحل فيهم ولا يحلون فيه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا". اهـ
وعرفها بعض آخر بقوله هي: "العناية والقصد إلى إماتة الشهوات".
وهو تعريف يغلب عليه المسلك الزهدي الذوقي الذي غلب على أهل الطريق ومن قبلهم رهبان النصارى ومن قبلهم الرواقيون أصحاب الفلسفات التجريدية التي اشتطت في تقرير الزهد فجعلته رياضات تقتل الشهوات، وليس ذلك مراد الرب، جل وعلا، من عباده، بل ذلك عائق عن القيام بتكليف الخلافة، إذ قد زود الرب، جل وعلا، عباده بتلك القوى لتكون لهم عونا على عمارة الكون لا تخريبه! بالانقطاع عن مباشرة أسباب الصلاح والتخلي والتجرد طلبا للفناء فليس ذلك داخلا في حد التكليف الشرعي إذ لا يطيقه عامة البشر، والتكليف إنما يكون بما يدخل في حد المقدور لدى عامة المكلفين، فالشرائع كلية تعم سائر الأفراد فلا تكون المشقة فيها خارجة عن حد العادة كما وقع في طرائق السالكين الذين خرج بعضهم عن حد العقل، فصير تعذيب النفس برسم التأديب مطلوبا أسمى، فتلك الحكمة التي يفتش عنها.
وحاصل التعريفات جميعا: محاولة بلوغ الكمال العلمي والعملي، وهو أمر رامه أصحاب هذه المدارس من غير طريق الوحي فتشعبت بهم الطرق تبعا لتشعب عقولهم، فبعضهم غلب الجانب العلمي التصوري، وبعضهم غلب الجانب العملي الإرادي، وكمال الطريقة العلمية والعملية إنما يكون في الرسالة السماوية فهي، كما تقدم مرارا، معدن كل علم نافع وعمل صالح.
والله أعلى وأعلم.
¥