تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكن المأمون لم يكتف بذلك بل توسع، كما تقدم، فنشطت حركة الترجمة بلا ضابط شرعي يميز الخبيث من الطيب. ولا تخلو معظم الأنشطة الإنسانية من تداخل بين الحق والباطل، فإن الحق المحض عزيز، ولذلك كان من كمال التسديد الرباني للعبد وكمال النظر الشرعي: أن يختار إمام المسلمين أو مقدمهم ما يلائم حالهم، فيجعل صيانة الأديان مراده الأول، فإن الدنيا ما بذلت أسبابها إلا حفظا للضروري الأول: ضروري الدين، فما بعده من الضروريات من: نفس ونسل ومال وعقل، عند التدبر والنظر، وإن كان مرادا لذاته من وجه، إلا أنه في حقيقته مكمل للضروري الأول، فحفظ النفس والنسل حفظ للدين الذي لا يقام في الأرض إلا بأفراد وجماعات تعتنقه، وحفظ المال حفظ له إذ لا قيام للدين إلا ببذل المال، فهو عصب الحياة، فبه تستقيم أمور الناس الخاصة والعامة، والفقر الذي يعاني منه العالم الإسلامي الآن هو أحد أسباب الهزيمة الحضارية الرئيسة، فقد تولد منه رقة في الديانة، فسهل على كثير من ضعاف الإيمان الانخلاع من الملة بالكلية طلبا لحظ نفس عاجل، وهو الوتر الحساس الذي يجيد النصارى العزف عليه، فالفقر بئس الضجيع، يصيب العقل بالتغير بل الاختلاط، فيفسد قياسه، فيرتكب الإنسان في سبيل رفعه ما قد يخرجه من الديانة، وليس المعافى كالمبتلى، وإن كان ذلك ليس بعذر معتبر في عين الشرع، ولكن عين الكون قاضية برحمة أولئك وبذل السبب في إعانتهم ماديا ومعنويا، ولو بإنزالهم منزلة المؤلفة قلوبهم!

والشاهد أن المأمون لم يحسن الاختيار لأمته ففتح الباب للغث والسمين، وكان تأثير الغث ظاهرا، إذ ترجمت كتب الإلهيات لأمم وثنية لم تعرف نبوة تعصمها في هذا الباب الخبري الذي لا يتلقى إلا من الوحي كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا.

ولم تقتصر العدوى على المأمون وحده بل شملت أسرا ذات وجاهة ورياسة في عصره، لا سيما أسرة موسى بن شاكر فقد كان لهم دور كبير في حركة الترجمة مع تقدمهم في علوم الهندسة والفلك، فهم، كما يقول الذهبي، رحمه الله، في تاريخ الإسلام: "الذين تنسب إليهم حيل بني موسى. وقد عنوا بكتب الأوائل، وبذلوا في طلبها الأموال، وبرعوا في علم الهندسة والموسيقى، ولهم عجائب في الحيل. وكانوا من شياطين العالم، وقد استعان بهم المأمون في عمل الرصد". اهـ بتصرف

فلهم مشاركات نافعة تقبل وأخرى ضارة ترد كسائر من ولج هذا الباب فإنه لم يسلم من لوثة في دينه إلا من عصم الله عز وجل. ولذلك كان لزاما على كل طالب للعلم التجريبي في زماننا، كما يقول بعض أهل العلم المعاصرين، أن يتعلم ابتداء من أمر دينه ما يرد به شبهات المشككين، وما يكون له وقاء من الانبهار بمدنية أوروبا المعاصرة التي تجعل كثيرا من الدارسين يغض الطرف عن انحطاطها الحضاري: الديني والأخلاقي، بل ربما استحسنه ومدحه وشارك في الترويج له كما هو حال العلمانيين أصحاب الشخصيات الفكرية الضعيفة التي تتأثر بأي وافد من الشاطئ الآخر دون نظر أو روية وغالبا ما تقع أذهانهم على كل خبيث مستقذر: وقوعَ الذباب على القيح والصديد فلا يستحسنون إلا أسوأ ما في الحصارة الأوروبية المعاصرة من مظاهر التحلل الموسوم زورا بـ: التحضر.

ويمكن تلخيص أسباب الترجمة فيما يلي:

أولا: حاجة المسلمين لا سيما بعد اتساع رقعة الدولة إلى علوم وصناعات جديدة لم تكن الحاجة إليها، أول الأمر، ماسة فلا تستغني أمة عن جملة من العلوم الطبيعية التي بها صلاح دنياها، فهي من الفروض الكفائية التي يلزم مجموع الأمة النهوض بها لئلا يقع المكلفون في الحرج فمنها ما هو مكمل للضروريات فيأخذ حكمها كصناعة آلات الحرب فهي مكمل لحفظ الدين، والطب فهو مكمل لحفظ النفس والنسل، والشئون المالية فهي مكملة لحفظ المال ...... إلخ، فضلا عن الحاجة الشرعية المباشرة كالحاجة إلى علم الفلك في تحديد مواقيت الصلاة واتجاه القبلة وأوائل الشهور ..... إلخ، وإن وقع نوع إفراط من المتأخرين في الأخذ بالحسابات الفلكية دون الرؤى الشرعية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير