تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بل إن المناخ الفكري الإسلامي لم يمنع غير المسلمين من أهل الذمة من المشاركة في البحث العلمي، فكان لهم دور بارز في حركة الترجمة، بل أكثر الذين شاركوا في الترجمة كانوا من غير المسلمين من أمثال: حنين بن إسحاق، وابنه إسحاق، وابن أخته حبيش وماسرجيس وقسطا بن لوقا وثابت بن قرة وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي ومتى بن يونس وعيسى بن زرعة وغيرهم، وهو دور سلبي إذ كان كثير منهم حريصا على تعظيم الحضارة التي ينتمي إليها ليشاركه المسلمون هذا الإعجاب الذي يصرف المسلم بالتدريج عن علوم الملة، حتى آل الأمر في زماننا إلى احتقارها بلسان الحال بل المقال في كثير من الأحيان بعد أن نجح الغرب في نقل عدوى التعارض بين الدين والدنيا إلينا عن طريق جراثيمه المنتشرة في مجتماتنا الإسلامية من علمانيين وأقليات مغرضة تكيد للمسلمين باستمرار وكثير منهم كان من جيل الرواد للعلمانية المعاصرة في الشرق المسلم.

"فليس من المستبعد أن يكون لهؤلاء المترجمين _ الذين كانت أغلبيتهم الساحقة من غير المسلمين _ أهداف خاصة من وراء الترجمة. فلم يكن هؤلاء ممن يعنون بالفكر الإسلامي المتمثل في تلك العلوم العربية الإسلامية التي نشأت حول القرآن والسنة، بل إن اهتمامهم كان متجها إلى تلك العلوم الأجنبية التي بذلوا الجهد في معرفتها والتفوق فيها، ويبدو أنهم أرادوا أن يشاركهم المسلمون الإعجاب بما يعجبون به، وعندئذ لن تكون عنايتهم مقصورة على علومهم الإسلامية وحدها بل سيقاسمها في هذه العناية تلك العلوم الجديدة التي وفدت إليهم عن طريق الترجمة". اهـ

"أصالة التفكير الإسلامي"، ص79، 80.

وكان لهم في المقابل مشاركة إيجابية في العلوم الطبيعية، أثرت البحث العلمي التجريبي في فروع كالطب والهندسة والفلك، بل كان للصابئة من أمثال ثابت بن قرة مشاركة كبيرة في الحساب والهندسة والفلك والطب حتى قال ابن أبي أصيبعة، كما ذكر الذهبي، رحمه الله، في ترجمة ثابت في "تاريخ الإسلام": "لم يكن في زمان ثابت بن قرة الحكيم من يماثله في الطب". اهـ

فلم يمنع الذهبي، رحمه الله، مروقُ ثابت من الديانة أن يثني عليه فيما برع فيه وأن ينقل ثناء معاصريه عليه في ذلك، فالحكمة ضالة المؤمن، والإنصاف الذي اشتهر به الذهبي، رحمه الله، قاض بذكر محاسن المترجم له ولو لم يكن على سنن الهدى.

"والشاهد أن هذه العلوم المترجمة في هذه الحركة العلمية التي ظهرت لدى المسلمين، لا سيما فيما يتعلق منها بالعلوم الطبيعية والرياضية، ولكن هذه العلوم نفسها كانت معروفة لدى شعوب أخرى قبل المسلمين، ثم لم تثمر، مع ذلك، ثمرتها التي ظهرت عند المسلمين، وقد اتصل هؤلاء بالتراث اليوناني قبل المسلمين وأجادوه أكثر منهم غير أن ترقية هذا العلم، وإبداع نماذج الدراسات العلمية، استأثر به المسلمون، فلم يقدر السريانيون، وهم أرقى الشعوب النصرانية في الشرق على أن ينجبوا عالما واحدا يصح مقارنته بالفارابي وابن سينا والبيروني وابن رشد". اهـ

"أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام"، ص94.

مع الإشارة إلى ما تقدم من أن محل البحث في هذا الموضع هو ما قدمه أولئك العلماء للبحث العلمي التجريبي، فالنظر إلى الفارابي هو النظر إلى: الفارابي الفلكي البارع لا الفارابي الفيلسوف المارق، فالفارابي في الطبيعات مما ينتفع بعلمه، والفارابي في الإلهيات مما يجب هجره، ولكل مقام مقال، وقد أكد المحققون من أمثال ابن تيمية، رحمه الله، على وجوب الفصل بين أبحاث الفلاسفة عموما والإسلاميين خصوصا في: الطبيعيات إذ لهم فيها كلام نافع، والإلهيات فجل كلامهم فيها ضار يصيب المؤمن بالحيرة والاضطراب.

وتعدى أثر المسلمين من الزيادة بالشرح والتفصيل إلى الزيادة بالابتكار والتطوير فأحدثوا: "تطويرا جوهريا في تلك العلوم كما فعلوا في مجال الرياضيات والفلك، بل أضاف أمثال الخوازمي إلى علم الجبر فروعا جديدة صح معها نسبة هذا العلم إليه، وكذلك فعل أمثال ابن الهيثم مع بطليموس، وعبد اللطيف البغدادي الذي استدرك على على جالينوس في بعض المواضع في علم التشريح وأرجع ذلك إلى اعتماد جالينوس على النقل دون الحس، فمع سعة علمه وقوة حدسه إلا أن علم التشريح علم تجريبي يستفيد الدارس فيه من المباشرة بالحس ما لا يستفيده

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير