تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فاقتصر الأمر في أوله على العلوم الطبيعية، وذلك أمر حسن، ثم تعدى إلى بقية العلوم بدافع الفضول الذي لا يتولد غالبا إلا في أزمنة الترف.

خامسا: شيوع اللغة العربية آنذاك كلغة عالمية للعلم، كما هو حال اللغة الإنجليزية في العصر الحاضر. فقد شجع ذلك على نقل سائر العلوم إليها بوصفها اللسان العالمي الجامع لسائر العلوم.

ومن الملاحظات على حركة الترجمة:

أولا: أنها اتسمت، كما تقدم بالشمول، فكان ذلك نافعا من وجه ضارا من وجه آخر، فقد أفاد المسلمون من العلوم الطبيعية المترجمة فهم كأي أمة تحتاج إلى قاعدة علمية تجريبية تصلح بها شأنها الدنيوي، فأرباب الصناعات والحرف لا غنى لهم عن علوم الطب والهندسة ........... إلخ.

ولكنهم في المقابل لم ينتفعوا بل أصابهم ضرر جسيم من ترجمة العلوم الإلهية، إذ كان ذلك، كما تقدم، ترفا زائدا، فقد كفوا مؤنة البحث في ذلك بما جاءت به الرسالة الخاتمة فصارت أي زيادة عليها لا ترجع إلى أصولها كنازلة ترد إلى أصل يشهد لها بقياس أو استحسان ..... إلخ، صارت تلك الزيادة طعنا بلسان حال صاحبها في كمال هذه الملة، فصاحبها يستدرك بصنيعه على صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما فاته من البلاغ!، لا سيما أن محل النزاع مع الفلاسفة هو في: الإلهيات وهي: أمور توقيفية لا بد أن يرد بها دليل، فلا يكفي في إثباتها تجويز عقلي أو قياس منطقي، وهو الغالب على الفلسفة اليونانية بدوريها الأفلاطوني الذي مال إلى النظر والتأمل المطلق، والأرسطي الذي تناول علوم الطبيعيات ولكنه لم يخلع ربقة القياس النظري من رقبته، لا سيما قياس الشمول الذي استعمله أرسطو في إثبات المثل الكلية المطلقة خارج الذهن دحضا لمقالة السفسطائية المنكرة للبدهيات الضرورية كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

فمن زعم أن العقل يستقل بدرك تلك المسائل الغيبية التوقيفية بمعزل عن النبوات، أو أنه يصلح دليلا يرد به ما قرره الدليل النقلي الصحيح، فلازم زعمه عزل النبوة عن وظيفة البيان وتولية العقول مع تنوعها واضطرابها ولاية التأسيس لمقررات الشرائع العلمية والعملية، فتصير النبوة تابعة للعقل، مع تقدمها وتأخره، فولايته عليها من الظلم بمكان، إذ قد وضع كل منهما في غير موضعه فعدم الانتفاع به كمن رام المشي على عينه والبصر بقدمه، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، فلكل قدر كوني يلائم ما قد أعد من أجله، فالعقل قد أعد ليفهم خطاب الوحي الصحيح بقياسه الصريح، فليس من وظائفه التلقي عن الله، عز وجل، فتلك وظيفة النبوة التي نازعها إياها ظلما وعدوانا، فزعم الفلاسفة والمعتزلة ومن تأثر بأصولهم من المتكلمين والعقلانيين، زعموا للعقل ما ليس له في باب الأخبار، وزعم العلمانيون المعاصرون للعقل ما ليس له في باب الأحكام، فشرائع البشر عندهم قائمة مقام شرائع الأنبياء عليهم السلام بل هي الأولى بالتقديم عند وقوع الشجار فلا يجد أولئك في صدورهم حرجا من التحاكم إليها ويجدون أعظم الحرج في التحاكم إلى شريعة الوحي المنزل!.

ثانيا: لم يقتصر الأمر على مجرد الترجمة بل أضاف المترجمون إلى مترجماتهم حواشيَ وشروحا، هي على ما اطرد بيانه، نافعة في الطبيعيات، ضارة في الإلهيات، بل بعضها يوقع الناظر فيه إن كان مؤمنا في اللبس بتقريبه الفلسفة إلى الدين على رسم تهذيب ابن سينا للفلسفة في إشاراته، فهي جمع بين أعظم متناقضين، بإلباس الفلسفة ثوب المصطلحات الشرعية، وتلك سمة بارزة في مناهج الفلاسفة وغلاة المتصوفة الذين تلبسوا ببدع الحلول والاتحاد، فالمباني: شرعية، والمعاني: كفرية، والظاهر المؤيد بسياقه لا يدل على مراد المتكلم، فلا يحصل به بيان إلا بتأويله على طريقة الباطنية الذين هدموا الملل بمعاول التأويل فلا قرينة نقلية أو عقلية تشهد لهم بل محض تخرص ورجم بالغيب.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير