وزاد الأمر تعقيدا: توالي الترجمات على الكتاب الواحد فالترجمة لا تؤدي المعنى كاملا مهما بلغ إتقان المترجم فإن لكل لغة طرائق لفظية تستقل بأداء معان ثانوية لا تؤديها الترجمات التي تقتصر على المعاني الأولية، فإذا ترجم الكتاب من اليونانية إلى السريانية ثم ترجم منها إلى العربية، كما وقع لبعض الكتب المترجمة زادت الهوة بين الأصل والترجمة لا سيما إن كانت الترجمة الأولى غير دقيقة فترد عليها الترجمة الثانية لتزيدها بعدا عن مراد صاحب الأصل. والسريان الذين لعبوا دور الوسيط كانوا يتصرفون في الأصول بالحذف والإضافة، فزاد ذلك الأمرَ خفاء وغموضا، فالتحريف قد شمل الألفاظ بالتصرف يها، والمعاني بتوالي الترجمات غير الدقيقة عليها فإن كثيرا من المترجمين السريان لم يترجموا الأصول إلى لغتهم ترجمة دقيقة، كما تقدم، ولم يكن معظم من تولى الترجمة في الحقبة الإسلامية من أهل اللسان العربي الفصيح، فهم كما تقدم من أهل الذمة الذين لا عناية لهم في الغالب باللسان العربي فذلك مما يعتني به علماء الملة لارتباطه الوثيق بنصوص الوحي المنزل الأصل الأول من أصول الأحكام، فلا يدرك أولئك طرائق وأسرار اللغة التي سيترجمون النص إليها، فلا يمكن الوثوق بترجماتهم وإن كانوا أمناء في أداء المعاني سواء أكان ذلك في الإلهيات أم في الطبيعيات.
"وقد حدث ذلك أيضا في ترجمة بعض الكتب المنطقية لأرسطو وأشار إلى ذلك، في نص ثمين، أبو الخير الحسن بن سوار الذي ذكر أن أول من قام بترجمة هذه الكتب، ويسمى أثانس الراهب، لم يكن عارفا بمعاني أرسطو وأدى ذلك إلى تعدد اجتهادات الشراح للكتاب فيما بعد، وقع ذلك أيضا في ترجمة يوحنا بن البطريق الذي كان: أمينا على الترجمة، حسن التأدية للمعاني لكنه كان ألكن اللسان في العربية، ومن شأن ذلك يحرمه الدقة في الصياغة، والجودة في التعبير عما يترجمه. كما أن عدم التخصص، كان يلقي ظلاله على الترجمة فيفقدها الدقة أيضا فقد حدث أن تولى بعض الأطباء ترجمة كتب فلسفية، وحدث العكس أحيانا، ولذلك كان المترجمون، في مثل هذه الأحوال، يعجزون عن فهم المقصود من النص المترجم وخاصة في المسائل الدقيقة أو الأمور المتعلقة بالإلهيات فيأتي النص غير مفهوم، وكان هذا العجز عن الفهم يدفعهم إلى التصرف بالحذف أو الزيادة في النص أو اللجوء إلى رأي آخر مفهوم لفيلسوف آخر، ولعل المترجم يكتب مستعينا بوحي خياله أو بطبيعة ثقافته العقلية واتجاهه الروحي والمذهبي". اهـ
"أصالة التفكير الفلسفي"، ص85، 86.
فكل يكتب ما استحسنه بعقله أو ذوقه فليس للمنقول قدسية تحول دون ذلك.
وأدى ذلك إلى نسبة كتب إلى غير أصحابها.
وإذا تأمل الناظر حال الأناجيل المتداولة الآن بين النصارى وجد ما هي عليه من التباين في الألفاظ زيادة ونقصانا، والتناقض في المعاني فرعا عن عدم دقة الترجمة على التفصيل المتقدم، فهي رؤى شخصية لمؤلفيها كتبوها بلغاتهم فليس لها أصول بلغة من تنسب إليه، إذ كان المسيح عليه السلام عبرانيا، ولا أصل عبراني يرجع إليه عند وقوع التعارض.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان لسان المسيح عليه السلام:
"ومن قال إن لسانه كان سريانيا كما يظنه بعض الناس فهو غالط فالكلام المنقول عنه في الأناجيل إنما تكلم به عبريا ثم ترجم من تلك اللغة إلى غيرها.
والترجمة يقع فيها الغلط كثيرا كما وجدنا في زماننا من يترجم التوراة من العبرية إلى العربية ويظهر في الترجمة من الغلط ما يشهد به الحذاق الصادقون ممن يعرف اللغتين". اهـ
"الجواب الصحيح"، (2/ 20، 21).
ومن أبرز آثار الترجمة:
أولا: أنها كانت سببا في حفظ تراث الأمم السابقة، وذلك جار أيضا على حد ما تقدم، إذ منه المحفوظ النافع والمحفوظ الضار فضلا عن كونه صورة غير كاملة للنص الأصلي لما وقع في الترجمات من أخطاء كما سبقت الإشارة إليها.
ثانيا: أنها أضافت إلى ميدان البحث الإسلامي علوما جديدة، منها ما كانت الحاجة إليه ماسة كسائر العلوم الطبيعية والتراتيب الإدارية ومنها ما لم تكن الأمة بحاجة إليه فهو فضول غذاء لو كان طيبا فضرره حاصل فكيف إذا كان خبيثا يعارض ما قرره الوحي المنزل؟!.
¥