تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده ولكن سلموا لهم أصولا فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل فصار ذلك سببا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية ومقاصد سامية قرآنية خرجوا بها عن حقيقة العلم والإيمان وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون بل يتسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات". اهـ

وذلك من انصاف ابن تيمية لابن سينا على ما وقع فيه من ضلال في مسائل الإلهيات فلم يخل عمله من مادة صلاح ولو كانت ضئيلة إذ أصلح الفاسد من حكمة الأوائل نوع إصلاح فحاله، وهو قد عرف النبوة، وإن خرج عن ناموسها، حاله مع ذلك خير من حال من لم يعرفها أصلا مع أن هذه المعرفة والنسبة إلى الإسلام قد أضرت من وجه آخر إذ راجت أفكاره، كما تقدم، على كثير من النظار المسلمين وعلى كثير من المسلمين الذين عرفوه طبيبا بارعا وهو كذلك بالفعل.

ثم الشرح والبسط على يد ابن رشد، رحمه الله، الذي تبنى الفلسفة الأرسطية فجردها مما تعلق بها من آثار الأفلاطونية، وقد كان، رحمه الله، على ما وقع فيه من أخطاء جسيمة بتقريره تلك الفلسفة والانتصار لها، كان حامل مقرراتها إلى أوروبا التي فضلت تراجم فلسفة وثنية على آثار حضارة شرعية يدعي أصحابها أنها نتاج وحي إلهي، فكان الأليق بمن يدعون أنهم أصحاب دين سماوي، وإن ناله من التحريف ما ناله، كان الأليق بهم أن ينظروا في تلك الدعوى، ولو بعين النقد المتجرد، ليثبتوا بطلانها بدليل نقلي صحيح وعقلي صريح لو كان لهم من النقل والعقل نصيب، ولكنهم على ما اطرد من عنصريتهم ومركزيتهم الفكرية، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، لم يتجشموا مجرد النظر في مقررات الرسالة الخاتمة فناصبوها العداء ولما يعلموا عنها شيئا، أو علموا علما مشوها قد نقله مغرض رام الصد عن السبيل، و: "الناس أعداء ما جهلوا" كما أثر عن ذي النون، رحمه الله، وإنما يؤتى المرء من قبل فساد تصوره، فإذا اختل قياس عقله، أو بطل معلومه، وإن كانت أداة الفهم عنده صحيحة، بطل حكمه العملي، فجاء فساد الخارج مصدقا لفساد الباطن، فهو ترجمان صدق له.

فالفلسفة "الإسكولائية" المسيحية وهي: هي فلسفة يحاول أتباعها تقديم برهان نظري للنظرة العامة الدينية للعالم بالاعتماد على الأفكار الفلسفية لأرسطو وأفلاطون قد أقامت صرحها على مقررات المشائبة العربية التي كان لابن رشد، رحمه الله، أكبر دور في شرحها حتى لقب بـ: "الشارح الأكبر"!، وذلك مما يفخر به من لم يسبر أغوار تلك الفلسفة فيعده من أيادي الحضارة الإسلامية البيضاء على الحضارة الأوروبية، مع أنه، عند التحقيق، كان سببا في توقف العقل الأوروبي عن النظر التجريبي بتبنيه فلسفة تجريدية ناسبت مقررات اللاهوت الذي يغلب عليه الشطح والخيال، والمناهج التجريبية تنقض عرى تلك الأوهام نقضا، وهو ما وقع بالفعل بعد ازدهار العلوم التجريبية الأوروبية إذ أثبت البحث العلمي التجريبي بطلان كثير من المسلمات الكنسية في العلوم الطبيعية لا سيما علوم الفلك والهيئة، فالإسكولائية ما هي إلا دور رابع من أدوار المشائية فـ: أرسطية أولى تلتها إسكندرانية ثانية، تلتها عربية أو رشدية على وجه الخصوص، فإسكولائية أخيرة اعتمدت مقررات أرسطو في إقامة البرهان النظري على نظرة دينية غيبية، لا يمكن للعقل الاستقلال بدركها أو إقامة الدليل عليها دون رجوع إلى نقل صحيح، ولم يكن عند الكنيسة منه قدر كاف يسد ثغرات الشك في نفوس أتباعها، فلجأت كأي مقالة محدثة في الديانة إلى تعويض النقص النقلي بمدد عقلي نظري مضطرب في مسائل الغيب لعدم إحاطته بها تصورا ليصح حكمه عليها، فذلك أمر لا يتلقى إلا من مشكاة النبوات، واليونان، كما تقدم، لا ناقة لهم ولا جمل في علوم النبوات فلم تكن بأرضهم نبوة، ولم يرحلوا إلى أرض النبوات، ولم يكن عندهم من التجرد ما يحملهم على الأخذ عن الشرق، على ما اطرد، بيانه مرارا، من عنصرية الغرب ومركزيته، فهو لا يتصور علما صحيحا إلا علمه، ولا جنسا راقيا إلا جنسه، ولعل الحركات العنصرية التي تظهر من آن لآخر في أوروبا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير