تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

خير شاهد على ذلك.

ومع ذلك لم يخل نقل العقل الأوروبي عن العقل الإسلامي الممثل في العقل الأندلسي الذي جمع أشتات علومه، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، عقل ابن رشد، رحمه الله، فقد كان موسوعي العلوم قد أتقن من الفنون جملة وافرة فهو فقيه، وذلك خير ما فيه، صاحب نظر بارع في الفقه المقارن، يظهر جليا في مصنفه الشهير: "بداية المجتهد" فقد تعرض فيه لأسباب الخلاف الفقهي بين المذاهب الإسلامية بنظر عقلي دقيق، وإن حذر بعض أهل العلم من وقوع نوع تجاوز في نقل اتفاقات أهل العلم في كتابه فهو من جنس تجوز أمثال ابن المنذر وابن عبد البر، رحمهما الله، في نقل إجماعات أهل العلم.

وهو طبيب بارع نقل جملة من علوم الطب إلى ميدان الفكر الأوروبي، والبحث الطبي العربي عموما والأندلسي خصوصا من أعظم ما استفاده البحث الأوروبي المعاصر.

وهو فيلسوف محقق، وهذا أعظم سلبياته، ولم يدع أحد له عصمة، وقد كان أثره في تجريد الفلسفة الأرسطية وإحيائها بالشرح والإسهاب بارزا في الفلسفة التي اعتمدتها الكنيسة الكاثوليكية كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

وهو مع ذلك: متأخر، فهو من رجال القرن السادس الهجري، فكان عصره عصر قطف ثمار بحوث علمية قام بها رجال القرون السابقة في شتى ميادين العلم، وكلما تأخر عصر العالم أو الباحث أتيح له من ثمار العقول ما لم يتح لغيره.

وقد عاش في فترة استقرار سياسي في الأندلس والمغرب زمن الخليفتين: يوسف بن عبد المؤمن وابنه أبي يوسف يعقوب المنصور، رحمهما الله، وكانا من أعلام زمانهما في علوم شتى، فكان لهما دراية كبيرة بعلوم الرواية، وعلوم اللسان، وعلوم الفقه فضلا عن شغف أبي يوسف بمسائل الحكمة زمان توليه إشبيلية زمن أبيه عبد المؤمن قبل أن تؤول إليه الخلافة في مراكش، وهو ما جعله يقرب ابن طفيل وصديقه ابن رشد، حتى كان شرح ابن رشد لفلسفة أرسطو بإيعاز من يوسف نفسه. وقد استمرت حظوته عند يعقوب المنصور ابن يوسف وخليفته، حتى نكبه في آخر حياته لما اتهم عنده بسبب إغراقه في الفلسفة شرحا وتقريرا، ثم عفا عنه في آخر الأمر، وقد ماتا معا في سنة واحدة: 595 هـ.

والاستقرار السياسي الذي حظيت به الدولة الموحدية زمن الخليفتين وحكمها واسطة العقد قبل انهيارها المفاجئ عقيب هزيمة الأرك سنة 609 هـ زمن الناصر بن المنصور، ذلك الاستقرار مناخ ملائم لنبوغ أي فكر متميز كفكر ابن رشد، بخلاف أزمنة الاضطراب السياسي فهو، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، ذريعة إلى الانهيار العسكري، فالانهيار الاجتماعي بكل صوره ومنها الانهيار العلمي، ولعل ذلك مما يظهر بارزا في زماننا على تفاوت بين دول العالم الإسلامي التي تعاني إجمالا عدم استقرار أدى إلى هجرة العقول المسلمة إلى أوروبا وأمريكا طلبا لفضاء أوسع.

وابن رشد، مع كل ذلك: أوروبي، إن صح التعبير، باعتبار نشأته في الأندلس، وهو ما سهل مهمة الأوربيين في النقل عنه وقد فتحت الأندلس لهم مدارسها ليتلقوا سائر العلوم والفنون فيها، وهو أمر لا ينكره المنصفون من أبناء الحضارة الأوربية المعاصرة.

وعموما: لا يمكن اختزال الأثر الإسلامي النافع في الحضارة الأوروبية في شخص ابن رشد فقط، إذ كان لغيره من أبناء الحضارة الإسلامية دور بارز في تقرير جملة من العلوم التجريبية النافعة كانت، كما تقدم، حجر أساس النهضة الأوروبية المعاصرة.

وللفلاسفة على عظم ضلالهم في الإلهيات بحوث نافعة في الطبيعيات من لدن أرسطو وشيعته إلى الكندي وكان رياضيا فلكيا إلى ابن سينا ودرجته في علوم الطب أشهر من أن تذكر.

وإلى طرف من ذلك أشار ابن تيمية، في مواضع عدة من كتبه فهو دائم التقرير والتوكيد على جودة أبحاثهم الطبيعية، وهو في المقابل دائم التقرير والتوكيد على رداءة أبحاثهم الإلهية التي خاضوا فيها خوض المتخرص الظان في باب، كما تقدم، لا يقبل إلا من طريق النقل الصحيح الذي يورث يقينا جازما لا يقبل الشك، وليس ذلك لقياس العقول بداهة فهي متفاوتة في تصور الحقائق المشهودة والحكم عليها ولذلك تتفاوت نتائج الأبحاث الطبيعية مع اتحاد الموضوع فيضيف كل باحث ما لم يضفه الآخر، ويبني اللاحق على ما تركه السابق، وربما نقضه من أصله فصح نقضه، وذلك غير متصور بداهة في العلوم الإلهية فلم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير