تأت نبوة لتنقض عرى نبوة سبقتها، وإنما غايتها أن ترفع، برسم النسخ الشرعي، بعض أحكامها الجزئية لا الكلية، فإن التوحيد جوهر الرسالات السماوية محكم لذاته فلا يتصور نسخه بنقل صحيح، بل لا يتصور نسخ ما دونه من كليات الأحكام والأخلاق، وذلك من الفوارق البارزة بين المناهج الإلهية الراسخة والمناهج العقلية المتفاوتة، ولذلك كان عمل العقل في التجريبيات التي تحتمل الصواب والخطأ: عملا محمودا بخلاف عمله في الإلهيات بمعزل عن النقل فهو عمل مذموم إذ هو مظنة الضلال بل لا بد أن يضل صاحبه إذ لا هدى في هذا الباب إلا من طريق الأنبياء عليهم السلام.
يقول ابن تيمية رحمه الله في "الرد على المنطقيين":
"نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد وهو كلام كثير واسع ولهم عقول عرفوا بها ذلك وهم قد يقصدون الحق لا يظهر عليهم العناد لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية ليس عندهم منه إلا قليل كثير الخطأ". اهـ
ويقول في "الجواب الصحيح":
"وأما العقليات فإنما يعظم كلام هؤلاء الفلاسفة في العلوم الكلية والإلهية من هو من أجهل الناس بالمعارف الإلهية والعلوم الكلية إذ كان كلامهم في ذلك فيه من الجهل والضلال ما لا يحيط به إلا ذو الجلال وإنما كان القوم يعرفون ما يعرفونه من الطبيعيات والرياضيات كالهندسة وبعض الهيئة وشيئا من علوم الأخلاق والسياسات المدنية والمنزلية التي هي جزء مما جاءت به الرسل واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم من هؤلاء بالعلوم الإلهية والأخلاق والسياسات فضلا عما وراء ذلك". اهـ
"الجواب الصحيح"، (3/ 23).
ويقول ابن القيم، رحمه الله، في معرض بيان حال القوم في الطبيعيات جودة والإلهيات رداءة:
"إن أولئك لما وقفوا على الصواب فيما أدتهم إليه أفكارهم من الرياضيات وبعض الطبيعيات وثقوا بعقولهم وفرحوا بما عندهم من العلم وظنوا أن سائر ما خدمته أفكارهم من العلم بالله وشأنه وعظمته هو كما أوقعهم عليه فكرهم وحكمه حكم ما شهد به الحس من الطبيعيات والرياضيات فتفاقم الشر وعظمت المصيبة وجحد الله وصفاته وخلقه للعالم وإعادته له وجحد كلامه ورسله ودينه ورأى كثير من هؤلاء أنهم هم خواص النوع الإنساني وأهل الألباب وأن ما عداهم هم القشور وأن الرسل إنما قاموا بسياستهم لئلا يكونوا كالبهائم فهم بمنزلة قيم المارستان وأما أهل العقول والرياضيات والأفكار فلا يحتاجون إلى الرسل بل هم يعلمون الرسل ما يصنعونه للدعوة الإنسانية كما تجد في كتبهم وينبغى للرسول أن يفعل كذا كذا". اهـ
وذلك تطاول على مقام النبوات يطرد في كلام كل محدث في الديانة ويتفاوت فحشه تبعا لتفاوت بعد أصحابه عن تعاليم الأنبياء عليهم السلام فمن كان أبعد كان أفحش، فلا يستوي صاحب البدعة البسيطة وصاحب البدعة المركبة، ولا يستوي صاحب البدعة من أهل القبلة ولو غلظت وصاحب البدعة التي تخرج صاحبها من الملة.
والأثر الأبرز للعقل الإسلامي في هذا الشأن هو، كما تقدم، الأثر النقدي الذي حمل لواءه أمثال ابن تيمية، رحمه الله، وسرى بعد ذلك إلى مناهج البحث الأوروبي الحديثة:
"وقد أصبح من الثابت الآن، طبقا لما كشفت عنه الوثائق الجديدة، أن مفكري الإسلام هم أصحاب الفضل في اكتشاف طرق المنهج التجريبي الذي تدين له الحضارة الحديثة بما وصلت إليه من كشف واختراع بعد أن تبنته واعتمدته طريقا للوصول إلى حقائق العلوم، حيث إن هؤلاء المفكرين المسلمين هم الذين وضعوا بالفعل قواعد المنطق الاستقرائي الحديث، وهو المنطق العلمي الذي يختلف في روحه ومبادئه عن المنطق الشكلي أو الصوري، منطق القياس، لدى أرسطو، وقد اعترف بهذه الحقيقة "روجر بيكون" العالم التجريبي الإنجليزي الذي أطلق "رينان" عليه لقب "الأمير الحقيقي للفكر في العصور الوسطى"، ومقرراته، باعترافه، شعبه من مقررات البحث العلمي الإسلامي في عصره الذهبي.
لقد كانت الثقافة القديمة، وخاصة اليونانية التي احتك بها المسلمون أكثر من غيرها من الثقافات، تجهل الطريقة التجريبية وتحتقرها، ولا تعنى إلا بالدراسات النظرية المجردة فكانت الريادة في هذا المجال إحدى المنجزات العلمية الرائعة التي تفتقت عنها عقلية مفكري الإسلام.
¥