تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ففرحوا بنحاتة أذهانهم في هذا الباب الجليل الذي لا عصمة فيه إلا بالاستمساك بالوحي على حد قوله تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)، فالمستمسك به على الصراط المستقيم قد رسخت قدمه فتلك علة الأمر فضلا عما للمستمسك به من رفعة الذكر، وتبعة الذكر فـ: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ)، فهم عنه مسئولون وبقدر التضلع من علوم النبوات يكون السؤال بين يدي رب البريات، جل وعلا، ولذلك كان تحصيل العلوم الإلهية مما يتفاضل به التكليف الشرعي، فهذا أحد أوجه زيادة الإيمان ونقصانه فيجب على من علم مسألة من مسائل الدين: علمية أو عملية، كبيرة أو صغيرة ما لا يجب على من لم يعلمها، ويجب على من قام الداعي في حقه إلى طلب العلم ما لا يجب على غيره، فالغني يجب عليه من تعلم أحكام الزكاة ما لا يجب على الفقير، فهذا وجه تفاوت في التكليف، وإن كانت الأحكام مستقرة لا تتبدل، فمناطاتها قد حررت، وإنما يقع التفاوت في التكليف فرعا عن التفاوت في تحقيقها، فمناط الزكاة: بلوغ النصاب وحولان الحول، وليس ذانك في كل مكلف بل في كل غني متحققين وإنما يتحققان في بعض دون بعض، فيدور الحكم مع تلك الأوصاف التي هي علله وجودا وعدما، فيتفاوت الإيمان من هذا الوجه فإن الغني المؤدي للزكاة قد عمل عملا يزيد في إيمانه قد حرمه الفقير، وإن لم يأثم بتركه إذ هو غير واجب عليه ابتداء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقل مثل ذلك في الناكح فإنه يجب عليه من حقوق الأهل ما لا يجب على من لا زوج له، فإن أداها فهو مثاب من وجه قد حرمه الثاني وإن لم يأثم لعدم تحقق علة الحكم فيه كما تقدم من حال الفقير.

والشاهد أنهم، كما تقدم استعملوا عقولا لم تدرك ماهية الأشياء في عالم الشهادة على حد اليقين حتى بحثوا في البدهيات ليتوصلوا بها إلى تقرير مسائل الإلهيات بمعزل عن النبوات فكان ما كان من فساد في التصور أعقبه فساد في الحكم فمتطلب الهدى على غير منهاج النبوة: متطلب في الماء جذوة نار!.

فاختلاف التصورين هو الذي أنتج ذلك التباين الكبير بين حكم العقل المسلم وحكم العقل الغربي، فكان العلم للأول: نعمة كونية أحسن سياستها بالطريقة الشرعية، وكان العلم للثاني: نقمة ولدت من المفاسد الكونية ما عانت منه أوروبا في بداية عصر النهضة من معارك دامية بين الكنيسة والعرش من جهة، وعموم الشعب من جهة أخرى، فقد انطلقت الجموع الثائرة، لتحطم قيد الكنيسة المحكم الذي عطل العقل الأوروبي قرونا، فاضطر إلى كسره في ثورة عاتية بدأت من فرنسا، حيث كانت أول دولة تبنت نتاج أفكار الرواد الذين أفنت الكنيسة أجسادهم ولم تفن أفكارهم الإلحادية المزدرية لكل دين، فلم تكن تعرف إلا دين الكنيسة المتطرف، فقابلت ذلك بتطرف آخر، كما ينسب بعض الفضلاء المعاصرين ذلك إلى "ليكونت دي نوي"، فمن قيد كنسي حاظر لكل فكر يعارض فكرها الذي طغى على كل مناحي الحياة فدس أنفه في كل صور البحث العلمي، ولو كات طبيعيا تجريبيا لا يتطرق إليه الوحي إلا لماما، فحسبه منه الإشارة الإعجازية دون خوض في التفاصيل الجزئية، فتلك طريقة التنزيل القرآني الذي لم يتطرق إلى آيات الكون إلا بما يحتاج إليه في معرض تقرير آيات الشرع، فالضرورة تقدر بقدرها، والوسيلة لا تنقلب غاية، فكانت الدعوة إلى النظر في سنن الخلق المشهود: دعوة مجملة، ترك النقل فيها للعقل حرية البحث في التفاصيل إذ ذلك مما تسعه مداركه، بخلاف الإلهيات والشرعيات فهي مما لا يستقل العقل بإدراكه إلا على سبيل الإجمال، بمقتضى ما ركز الله، عز وجل، في النفوس من الفطرة التوحيدية الأولى والقياس العقلي الصريح الذي يدرك الحسن من القبيح على ذات الحد من الإجمال، فالفطرة الأولى المركوزة في قلبه تدله على الإلهيات إجمالا، والقياس الأول المركوز في عقله يدله على الشرعيات إجمالا، فقوى إدراك التوحيد، وقوى إدراك الحسن من القبيح مجملة تأتي النبوات ببيانها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير