تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمن ذلك القيد المتطرف إلى فضاء الانفلات العقلي، إن صح التعبير، فأقحم العقل بدوره نفسه في كل صغيرة وكبيرة، وكأنه ينتقم من الكنيسة، فلم يسلم منه الغيب الذي لا يدخل قي حيز عمله، قمن خرافة الكنيسة إلى تخرصات العقل! دون محاولة لعلاج أصل الداء بالرجوع إلى مقررات النبوات الصحيحات، فليس لأوروبا من ذلك نصيب طوال تاريخها وليس لها إجمالا نية صالحة تستحق لأجلها أن تسطع شمس النبوات في سمائها، فإن الحق، عزيز يغار الله، عز وجل، عليه فلا يمنحه إلا من يستحق، وذلك أمر مطرد في كل الأعصار والأمصار، فلما التزم صدر هذه الأمة بالوحي، فعظموا شعائر الرب، جل وعلا، بتصديق خبره وامتثال أمره ونهيه، صاروا أهلا ومحلا قابلا لقبول الوعد الإلهي، ولما حقر الخلف شعائر الرب، جل وعلا، بلسان الحال بل بلسان المقال أحيانا، كما هو مشاهد في الأعصار المتأخرة، صاروا محلا فاسدا يغار الرب، جل وعلا، على الحق أن يضعه فيه فذلك غير جار على سنن الحكمة الربانية بوضع الشيء في موضعه، فإن للحق محالا، وللباطل محالا، فإذا وضع أحدهما في محل الآخر اختل ميزان العدل، وذلك معنى ينتفي في حق الرب، جل وعلا، بداهة.

وإذا علم ذلك علم سر تعاسة أوروبا التي كانت غيرة الرب، جل وعلا، في حقها أعظم فحرمت من الحد الأدنى من الوحي الذي يصحح عقدها الإيماني الأول، بل عوقبت بعداوته وتجييش الحملات لحربه، وتلك أعظم عقوبة، لمن تدبرها، فلا أعظم خذلانا من مبارزة الرب، جل وعلا، فإن ذلك أمر يدل على عظم جهل فاعله، إذ لو قدر الله، عز وجل، حق قدره لاستحى أن يبارزه بصغيرة فضلا عن يبارزه بكبيرة فضلا عن أن يبارز دينه جملة وتفصيلا!، وكلما كان التصور أفسد كانت المبارزة أعظم والجناية أشنع والخسارة أعظم، إذ النتيجة قد علمت بداهة، فمن ذا الذي يخرج عن إرادة الرب، جل وعلا، الكونية؟!، فالمبارز له بالمعصية ما بارزه ابتداء إلا بإذنه الكوني النافذ الذي حكم بخذلانه فذلك مقتضى عدله.

وعلم أيضا: سر تعاسة كثير من المجتمعات الإسلامية في زماننا على تفاوت فكلما كان المحل فاسدا كانت غيرة الرب، جل وعلا، على دينه أعظم، فحجبه عنه لعدم ملاءمته، فذلك أمر يجده الأفراد والجماعات على حد سواء.

وقد لاحظ أبو الريحان البيروني تلك الدلالة القرآنية العامة التي توجه العقل إلى التفكر توجيها عاما دون أن تقيده بأرقام وحقائق مفصلة تعيقه عن التدبر إذا ما وجد تعارضا بينها وبين الحقائق الخارجية في عالم الشهادة فإما أن يلغي عقله ويهمل استنتاجه ولو كان صحيحا، وإما أن يفقد الثقة بالوحي، أو ما يفترض أنه وحي!، فيصير إلى فساد علمي وعملي كبير، وما تعيشه أوروبا اليوم هو ثمرة من ثمار ذلك الصدام العنيف بين: عقل النهضة الأوروبية التجريبي ودين الكنيسة التخريبي للأديان والأبدان، للمعقول والمحسوس، بشهادة حال أتباعه الذين أقصوه بأنفسهم دون أن يستعدوا عليه قوى خارجية، اللهم إلا ما نقلوه من العلوم التجريبية الإسلامية التي أعلت شأن العقل المغيب آنذاك في الحياة الفكرية الأوروبية ضيقة النطاق، ضيقة الأفق، شديدة التعصب ضد كل وافد ولو كان صالحا، فلم يكن الأمر يستلزم تلك المعركة الدامية لو كانت الكنيسة قد أقامت دينها على أساس متين من النقل والعقل يكفل لأتباعها سلامة القلب وصحة العقل في نفس الوقت لئلا تختلق تلك المعركة الشرسة بين القلب: مستودع العقود الوجدانية، والعقل: مستودع الأقيسة والعلوم النظرية، وهي المعركة التي دارت داخل كل أوروبي في تلك المرحلة الانتقالية بين الدين الكنسي والعلمانية المعاصرة، فأورثت صاحبها شكا وحيرة إذ تعذر الجمع بين الدين والعلم، وكان للعلم التجريبي دوما قصب السبق، لصحة مصادره، فاهتزت مكانة الدين في نفوس الأوروبيين واستولى العلم على مقاليد السلطان شيئا فشيئا في ظل انحسار وحي الكنيسة المحرف الذي أقحم نفسه، كما تقدم، في كل صغيرة وكبيرة من دقائق الحياة المعنوية أو المادية، فهو الطبيب والفلكي والرياضي المتخصص وهو مع ذلك لا يقوم بوظيفته الأولى في ضمان الاستقرار المعنوي لمعتنقه، فيورد في توراته وإنجيله أدق تفاصيل الأحداث من أعلام لأشخاص ومدن ولا يورد علما إلهيا نافعا يغذي العقل، أو عظة نافعة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير