تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تغذي القلب، ويهتم بإيراد تاريخ خلق آدم عليه السلام على وجه التحديد، ولا يهتم ببيان ما أنزل عليه من الوحي والشرائع النافعة، والباب في الطبيعيات واسع إذ هي من المحسوس الذي يخضع لقياس العقل، ومعرفة عمر الأرض ودورانها حول نفسها ليس من الفروض العينية التي يكفر المخالف فيها، ولكنهم أبوا إلا تحجير الواسع وتكفير المخالف من بني جلدتهم فضلا عن أعدائهم التقليديين من الإسلاميين!.

فلاحظ أبو الريحان البيروني ذلك عند كلامه عن علوم الفلك عند أهل الهند حيث بين أن أمر الهند وعلومها فيما يتعلق بصورة السماء والأرض قد جرى فيما بينهم: "على خلاف الحال بين قومنا، وذلك أن القرآن لم ينطق في هذا الباب، وفي كل شيء ضروري، بما يحوج إلى تعسف في تأويل، حتى ينصرف إلى المعلوم بالضرورة، كالكتب المنزلة قبله، وإنما هو في الأشياء الضرورية معها حذو القذة بالقذة، وبإحكام من غير تشابه، ولم يشتمل، أيضا، على شيء مما اختلف فيه، وأيس من الوصول إليه مما يشبه التواريخ". اهـ

"أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام"، ص51.

فهو في المسائل الضرورية التي أنزل من أجلها يفصل القول ويبسط العبارة ويقيم الدليل العقلي على المخالف، ويتنزل معه في الخطاب إلى حد افتراض المحال ........... إلخ، وفي المسائل الأخرى يشير إشارة مجملة فلا يقيد عمل العقل بنتائج مسبقة في علوم تخضع لقياسه، فيفسح له المجال في الطبيعيات نظرا وتأملا، واستقراء لأحوال الكائنات في معرض الاستدلال على مُكَوِّنها، عز وجل، فقد شفاه من عي السؤال في الإلهيات الغيبية وفرغه للنظر والاجتهاد في الشرعيات العملية فضلا عن سائر العلوم الكونية، فله دور بارز في أحكام الدين والدنيا، فهو في الدين، وزير صدق للوحي يؤيده بالقياس الصريح الذي لا يعارض النقل الصحيح، وتلك الوزارة، كما تقدم مرارا، هي التي افتقدها وحي الكنيسة المحرف، فالعقل قد أطاح بالوحي في انقلاب فكري دام، فلم يكن له مخلصا لما ناله منه من أذى وتضييق فهادنه حينا في بداية عصر التنوير لما طلب الرواد الفصل بين الدين والدنيا واحترام كلٍ للآخر، ثم لم يلبث أن انقلب عليه فسلبه جل سلطاته وأبقى له سلطة روحية اسمية ليس لها أثر في أرض الواقع.

ووزارة الصدق في هذا الشأن لا تكون بداهة في التوقيفيات من إلهيات وعبادات، وإنما تكون في المعاملات التي يدرك العقل عللها فيقيس عليها نظائرها فالعبادات، كما يقول إمام المقاصد الجليل محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله:

"مبنية على مقاصد قارة، (أي: مستقرة ثابتة)، فلا حرج في دوامها ولزومها للأمم والعصور إلا في أحوال نادرة، تدخل تحت حكم الرخصة، فأما المعاملات فبحاجة إلى اختلاف تفاريعها، باختلاف الأحوال والعصور، فالحمل فيها على حكم لا يتغير، حرج عظيم على كثير من طبقات الأمة". اهـ

نقلا عن: "أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام"، ص50.

وذلك قول يحمله أهل الحق على محمله، وهو مراد الإمام رحمه الله قطعا، نحسبه كذلك ولا نزكيه على ربه عز وجل، فحاله من العلم والاستقامة مئنة من ذلك، ويحمله أهل الباطل، لا سيما رواد من سموا أنفسهم بالعقلانيين والتجديديين، وهم أبعد الناس عن ذينك الوصفين على محامل!، فإنهم يستغلون كل نازلة فرعية ليروجوا لقصور الشرع عن بيان حكمها دون نظر في أصول وكليات الشرع الحنيف فليس لهم بها علم أصلا!، وإنما حاصل أمرهم: محض دعاية عالية الصوت تنادي بهدم الأصل استنادا إلى مصلحة متوهمة في فرع، فاختلاف الفروع الحادثة عندهم، وعدم وجود نص في حكم كل فرع بعينه! دليل على عجز الشريعة عن بيان حكمها، فليحكم العقل والهوى إذن حيث عجز الوحي عن الفصل، فذلك، على أقل تقدير، خير من ترك المسألة معلقة بلا حكم!، وإنما فتنهم من قصر باعه في الشرع فقلد من سبقه وجمد على قوله دون تجديد، بمعناه الحقيقي، فأغرى بجموده أرباب الميوعة والتسيب لينتفضوا على جموده لا على جمود الشرع، ولكنهم لم يريدوا خيرا فنسبوا جمود المتأخرين إلى الشرع نفسه، فليس المراد استبدال العقول الجامدة بأخرى نشطة فاعلة، وإنما المراد استبدال المنهج برمته ليحل محله منهج وضعه فلان أو فلان من المنظرين، فيصير هو معقد الولاء والبراء، فما صنع أولئك إلا أن استبدلوا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير