ولاء الشرع السماوي النازل المطرد بولاء القانون الأرضي الوضعي المضطرب، فأيهما أحق بالتعصب لدستوره والانتصار لمقوله؟!.
ولذلك كانت دراسة العلوم الكلية التي بها تستنبط أحكام الوقائع الجزئية فتنتظم تحتها انتظام الأفراد تحت نوعها، كعلوم أصول الفقه وما تقرره من دلالات اللسان العربي والنص الشرعي من منطوق ومفهوم واقتضاء وإشارة وتنبيه وفحوى ولحن ........ إلخ، والقواعد الفقهية الكلية التي بها يجمع شتات الفروع الجزئية، والمقاصد الشرعية التي بها تعرف حكمة الشارع، عز وجل، في شريعته الخاتمة ........ إلخ، كانت تلك الدراسة في عصرنا من أفضل العبادات التي يتقرب بها إلى الرب، جل وعلا، لمسيس الحاجة إليها لرد عدوان المستغربين والعلمانيين على شريعة رب العالمين.
والعقل في أمر الدنيا: رائد في اكتشاف قوى الكون لتسخيرها في نصرة الوحي لا القضاء عليه وعلى أتباعه كما هو مشاهد في واقعنا المعاصر الذي آلت فيه أسباب الكون لمن لا يملكون من أسباب الشرع شيئا، فسلطوا، بمقتضى الأمر الكوني النافذ، على ورثة علوم النبوات، جزاء وفاقا لتقصيرهم في الأخذ بأسباب الشرع والكون، فلا دين يعصم ولا دنيا تشبع!.
وليس من دور الوحي، كما تقدم، تحديد القول الفصل في عمر الأرض كما فصلت الكنيسة القول في ذلك فاضطرت إنقاذا لعصمة مقرراتها أن تقمع أي بحث تجريبي ينقض تلك الفرضية العقلية!، وليس من دوره أن يحدد على وجه الدقة دوران الأرض أو ثبوتها، وإن كان التنزيل قد تعرض لذلك إجمالا، على ما اطرد من إشاراته المجملة إلى الحقائق الكونية في معرض تقرير الحقائق الشرعية، فالربوبية، كما تقدم في أكثر من موضع ذريعة إلى تقرير الألوهية تصديقا وامتثالا.
يقول صاحب رسالة "العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" حفظه الله وسدده وأتم شفاءه:
" (إن المسيحية التقليدية لم تعد قادرة على أن تمد المستنيرين بنظرية كونية فقد بدأ الناس يعرفون ما يكفي من الجيولوجيا لكي يبين أن تاريخ الخليقة الذي حدده الأسقف "آشر" بعام 4004 ق م وتاريخ قصة الطوفان بعيدا الاحتمال. (وذلك أمر يدركه طلاب المدارس في أكثر دول العالم تخلفا، ومع ذلك كان ضده مقررا تقرير الوحي المعصوم الذي لا يقبل المجادلة!)
ولكن لم تكن هناك حاجة إلى أن ينتظر الناس نمو المعرفة الجيولوجية، خذ مبدأ التثليث في المسيحية مثلاً: إن الرياضة كانت ضد هذا المبدأ فإن أي نظام رياضي محترم لا يسمح بأن يكون الثلاثة ثلاثة وواحداً في آن واحد، أما عن المعجزات فلماذا توقفت؟ إذا أمكن إحياء الميت في القرن الأول فلماذا لا يحيى في القرن الثامن عشر؟! ". اهـ نقل المصنف عن: "برنتن" بتصرف.
وربما كان أعدي أعداء الكنيسة آنذاك هو فولتير ولنقتطف نماذج من نقده للدين ورجاله من كتابه (القاموس الفلسفي):
"أول ما انتقد فولتير العقيدة المسيحية في التثليث وتجسيم الإله والصور المقدسة وأنحى باللائمة على بولس الذي طمس المسيحية وحرفها، ولذلك كان الإيمان بالمسيحية في نظره هو: "الاعتقاد بأشياء مستحيلة أو بأشياء تستعصي على الفهم فالحية تتكلم والحمار يتحدث وحوائط أريحا تتساقط بعد سماعها صوت الأبواق، إن الإيمان على هذا النحو هو على ما يقول أرازم هو الجنون".
"أما الخطيئة الأولى فيرفضها فولتير ويعتبرها إهانة لله واتهاماً له بالبربرية والتناقض وذلك للتجرؤ على القول بأنه خلق الأجيال البشرية وعذبها لأن أباهم الأول قد أكل فاكهة من حديقته"
وينقد فولتير الطقوس السبعة نقدا مريرا ويسخر من الكتاب المقدس سخرية لاذعة تتجلى في قوله تعليقا علي معلومات التوراة الجغرافية: (من الواضح أن الله لم يكن قويا في الجغرافيا) ". اهـ
"العلمانية"، ص161، 162.
وما اجترأ ذلك الملحد الذي كان رائدا فاعلا في تاريخ العلمانية المعاصرة، ولو كان اجتراؤه في معرض الإلزام للكنيسة من جنس قولها، ما اجترأ إلا للفساد البين في تلك المقالات الأرضية المضطربة حتى في تحديد الأماكن والأعيان وهي أمور يدركها العقل وإن تفاوت في تقديرها.
ويقول صاحب رسالة "العلمانية" في موضع تال:
¥