تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نقلا عن "أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام"، ص104.

وتأمل حال خريجي الكليات العملية في هذا الزمان، وقد ندرت فرص التدريب الجاد أثناء الدراسة لضعف الإمكانيات فيتخرج الدارس وقد تشبع بالمثل العلمية الكلية ولا ناقة له ولا جمل في البحث التجريبي فيكون من له خبرة وتجربة وإن كان مؤهله أدنى منه رتبة أحذق منه وأنفع.

والشاهد أن القرآن لم يحوج أهله ما أحوجت الكنيسة أربابها إليه من تعسف متكلف انتصارا لنظريات، بل فرضيات عقلية محضة، في أمر تمكن معرفته بقوى العقل الصحيح برصد الظواهر بالحس الظاهر وترجمة ذلك بمقتضى القياس العقلي الصريح.

فالطبيعيات ليست محل ابتلاء ليرد النص على أحكامها تفصيلا كما ورد على الأحكام الشرعية فلن يهلك من لم يعرف أن عمر الأرض كذا، بل ذلك غايته أن يكون علما دنيويا نافعا، يفيد من حصله في هذه الدار أصالة، فلا نفع له في الدار الآخرة إلا إن أحسن العبد التجارة مع الرب، جل وعلا، فاستحضر نية صالحة في تحصيله فينتقل من مرتبة المباح لذاته إلى مرتبة المباح الذي يتوسل به فاعله إلى تحصيل واجب أو مندوب، فيصح تعلق الثواب به من هذا الوجه، إذ قد صار معنى التعبد فيه معقولا.

والإغراق في الجزئيات يستهلك قوى العقل، فيضيع الوقت والجهد في تحصيلها من غير مظانها، إذ ليس الوحي، كما تقدم، مقررا للسنن الكونية على حد التفصيل لأدق الجزئيات فهو الجيولوجي الذي يحدد عمر الأرض، وهو الطبيب الذي يداوي الجرح، وهو الفلكي الذي يحدد أفلاك الكون ......... إلخ.

وقد أرجع: "ولز" تأخر الحضارة الصينية في بعض أدوارها إلى ذلك الإغراق في تقرير الجزئيات، وهو ما أصاب الحضارة الإسلامية في عصور الجمود والتقليد الأخيرة، فقد صار عمل العقل الشرح والتحشية، والتكلف في تحرير التعريفات على طريقة المناطقة الذين يجردون الماهيات في الأذهان على حد لا وجود له في الخارج، وقد كان ذلك، كما تقدم، سببا في ظهور اتجاهات فكرية منحرفة عن جوهر الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كالإرجاء الذي بحث في ماهية الإيمان بحثا تجريديا، لا وجود له خارج الأذهان فإنه لا يتصور إيمان مجرد يتساوى فيه أهله بل التفاضل بينهم فيه كائن تبعا لتعدد ذواتهم التي يقوم بها قيام الوصف بموصوفه، فلا ينفك عن أحوال قلبية وأعمال بدنية يقع بها التفاوت بين المكلفين على حد لا يحصيه إلا الله، عز وجل، وقل مثل ذلك في مسائل من قبيل المطلق بشرط الإطلاق، فهو وجود كلا وجود، بل هو عين العدم في الخارج، وإن افترضه الذهن افتراضا عقليا محضا.

والشاهد أن تلك المعركة الدامية قد أسفرت عن نصر ساحق للعقل المجرد من الوحي، فاستولى على مقاليد الحكم، ليحقق تلك الطفرة الكونية الظاهرة في غياب المرشد الصادق والدليل الناصح من الوحي النازل.

فكانت ثورته على دين الكنيسة وشرائع الكنيسة وأخلاق الكنيسة، فانطلق العقل على غير هدى، وحصد في طريقه كل القيم الكنسية الموروثة.

يقول صاحب رسالة "العلمانية"، حفظه الله سدده وأتم شفاءه، في معرض تحليل الثورة الفرنسية باكورة تحرر أوروبا من قيد الكنيسة إلى فضاء العلمانية الإلحادية!:

"في السنوات السابقة للثورة بلغ الفساد السياسي والتدهور الاقتصادي في فرنسا غايته حتى أن: "كالون" وزير الخزانة الملكية اعترف بذلك سنة 1787 م وأرادت الحكومة سد عجز الميزانية بإرهاق الشعب بضرائب جديدة فادحة فازدادت أحوال الطبقات المسحوقة سوءاً وعصفت بالبلاد موجة من الجوع ونقص المؤن.

وفي الوقت الذي عيل فيه صبر الشعب وأنهكته المجاعة والبؤس كان هناك طبقتان تترنحان في أعطاف النعيم وتنغمسان في مختلف الملاذ هما: طبقة رجال الدين وطبقة الأشراف، بالإضافة إلى الأسرة المالكة التي كانت عبئاً ثقيلاً على الجميع.

وكان إنقاذ الشعب يتطلب منه أن يقوم بعمل يودي بالظلم ويزيح كابوسه عن المهضومين. ووقف الشعب بكل فئاته "الفلاحين، المهنيين، القساوسة الصغار" جبهة واحدة وكانت الجبهة الأخرى ائتلافاً بين الطبقتين المحتكرتين: "رجال الدين والأشراف".

وقضت سنة الله أن ينتصر الشعب على جلاديه وأن تحصد "المقصلة" معظم الرءوس المترفة الطاغية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير