وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية، فقد ولدت أول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية لا دينية تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب "وليس باسم الله"، وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلا من قرارات الكنيسة.
وقامت الثورة بأعمال غريبة على عصرها فقد حلت الجمعيات الدينية وسرحت الرهبان والراهبات وصادرت أموال الكنيسة وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علناً وبشدة وأصبح رجل الدين موظفاً مدنياً لدى الحكومة". اهـ
ص168، 169.
وهذا جار على حد ما نراه في دول الشرق المسلم التي هبت رياح العلمانية عاتية على مجتمعاتها، فقيس العالم المسلم على القس النصراني قياسا فاسدا، وقيس دين التوحيد على دين التثليث!، فصار العالم هو الآخر: موظفا لدى الدولة، بل قد صارت المؤسسة الدينية الرسمية بأكملها تابعة للحكومة المركزية!.
وزاد في غروره وجبروته، ما حصله من أسباب الكون فلم يشغل نفسه بالعلل الغائية من خلق هذا الكون وتسخير تلك الأسباب، بل صار جل همه ومنتهى أمله البحث في العلل الفاعلة، فصارت الوسيلة: غاية، وأهملت الغاية الحقة من النظر والتأمل في سنن الكون: غاية: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
يقول صاحب رسالة "العلمانية":
"وحين رأى أنصار المنهج العلمي أن الذي يدعو الباحثين إلى الإيمان بالله ونسبة الأفعال الكونية هو ما يرونه فى الكون من دقة وحكمة وإتقان تدل بوضوح على أن له غاية محددة وهدفاً مقصوداً مما يدعم الإيمان بالله – لما رأوا ذلك – بحثوا عن أجدى السبل للحيلولة دون الوصول إلى هذه النتيجة فلم يجدوا إلا القول بأن ذلك ينافي فن البحث العلمى. وقد عبر بعضهم عن ذلك قائلاً: ((إن العلماء يجب أن يتساءلوا عن الكيفية لا عن السبب. إن السؤال عن السبب يعنى أن هناك غرضاً عاقلاً وراء تصميم الأشياء وأن عوامل غير طبيعية توجه الأفعال نحو غايات معينة. وهذه هى وجهة النظر (الغائبة) وهي وجهة نظر يرفضها العلم الحالى الذى يجاهد فى فهم طريقة عمل جميع الظواهر الطبيعية وقد أشار "فون برزكه" إلى ذلك ذات مرة قائلاً: ((إن الغائية سيدة لا يقدر أى عالم بيولوجى أن يحيا بدونها ومع ذلك فهو يخجل أن يظهر بصحبتها أمام الناس)).
إلى هذا الحد بلغت مصادمة الفطرة وبلغ إرهاب أعداء الدين لمن يسايرها وهو إرهاب معنوي يقوم بالدور نفسه الذى كانت السلطة الكهنوتية تمارسه. كما أن لأحرار الفكر طغيانهم الفكري الذى يضارع طغيان الكنيسة. وكيف لا يكون كذلك وهو إنما نشأ رد فعل له؟ فحين تفرض الكنيسة بالقوة أن يؤمن الإنسان بالثالوث رغم أنفه، كذلك يوجب هؤلاء أن يكون الإنسان ملحداً رغم أنفه والفرق بينهما هو مصدر الإرغام فقط.
يقول وليم جيمس:
((لا يزال بعض رجال المذهب الوضعي ينادي اليوم قائلاً: هناك إله واحد مقدس يقف في جلاله وعظمته بين أنقاض كل إله غيره وكل وثن وهو الحقيقة العلمية وليس له إلا أمر واحد وقول واحد وهو: أن ليس لكم أن تؤمنوا بالله)).
وعندما يحرج الباحث العلمي فى مأزق لا يستطيع معه إلا أن يقول: ((الله)) كما فى مسألة نشأة الحياة وأصل الكون وأمثالها فماذا يصنع؟ أيساير العقل والفطرة فيصرح بذلك ويعد نفسه مخلاً بأسلوب البحث العلمي ومقصراً في متابعة المنهج العلمى السليم. أم يتوقف عن المسألة نهائياً؟
إن رواد الفكر الحر! قد سبقوا إلى حل المعضلة ووضعوا أمام الباحث خياراً بين أساليب أحلاها مر. معتقدين أنها تؤدي إلى المقصود دون إخلال بالمنهج العلمى منها: ....... (ثم ذكر صيغا لفظية لا يوجد ذكر لله، عز وجل، فيها بل يبنى الفاعل لما لم يسم فاعله .................... إلخ) ".
بتصرف واسع من "العلمانية": ص336_339.
فهذه نظرة كل عقل إلى العلوم الكونية: العقل الإسلامي المؤيد بالوحي، والعقل الأوروبي المغرور المعجب بما توارثه من ادعاء رقي الجنس ومركزية الكون، وما بيده من أسباب القوة الكونية، وإن افتقر إلى القوة الشرعية الحاكمة، بل هو بلسان مقاله وحاله مظهر للاستغناء عنها، مستكبر عن الانقياد لها، وإن كان حاله من الفقر الذاتي لأسباب الكون التي أجراها الله، عز وجل، صيانة لبدنه، شاهد بضد دعواه، فهو عبد خاضع للسنن الكونية مفتقر إلى السنن الشرعية ليقم أود روحه افتقار بدنه إلى السنن الكونية التي تقيم أوده، وإن كابر وأظهر الاستغناء، فافتقار بدنه المتكرر لأسباب الكون وفساد حاله الظاهر إن أعرض عن سنن الشرع كما هو حال الإنسان عموما، والإنسان الأوروبي خصوصا: فاضح لحاله.
والغرض مما تقدم بيان الظروف التي واكبت إنطلاق العقل المسلم، والظروف التي اضطرت العقل الأوروبي إلى الانطلاق، فقد حصل العقل المسلم على حريته بلا خسائر إذ الوحي المحفوظ قد جاء لتزكيته، بينما حصل العقل الأوروبي على حريته بعد معركة دامية مع الوحي المحرف، فهو لا يخجل من إظهار حقده على الوحي وكرهه لرجاله إذ لم يعرف إلا الوحي المحرف الذي ناقض عقله وصادم فطرته بما فرضه عليه من مقالة التثليث المحالة عقلا، المنبوذة فطرة.
وبقي ذكر بعض صور ذلك التأثر في مشاركة تالية إن شاء الله.
والله أعلى وأعلم.
¥