تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم تطور عداؤها للدين عموما فلم تر من الكنيسة إلا كل شر، وللإسلام الجار الجنوبي خصوصا، إذ له من القوة الفكرية ما يتيح له اختراق أي جبهة مضادة إن أحسن أتباعه طرحه، فهو ملائم للفطر السوية موافق للعقول الصريحة، فهي تبغضه وتظهر له العداء بمقتضى سنة التدافع الكونية، وهي تبغضه لجهلها به فهو ودين الكنيسة في تصورها على حد سواء، وهي لم تحصل على حريتها من رق الكنيسة إلا بتضحيات كبيرة، من لدن ظهرت باكورة العلمانية بظهور جيل الرواد الذين طاردتهم الكنيسة، كما تقدم، بل طاردت كل حركة إصلاحية كنسية تأثرت بمقررات العقل الإسلامي المستنير، وإن كانت توافقها على العداء الصريح للإسلام بل قد تزيد عليها بما تفتريه عليه، فلم يكن "مارتن لوثر" المصلح البروتستانتي، متعاطفا مع الإسلام، بل غلا في عدائه وافترى على كتابه ما يدل على جهله المركب بدين الإسلام، ومع ذلك لم تسلم حركته من آثار فكرية إسلامية، بل تعدى ذلك إلى بعض الأحكام العملية كتحريم التماثيل، وهو تيار يظهر من حين إلى آخر في الوسط النصراني، وقد ظهرت آثار له في مصر مؤخرا مع كون أصحابه نصارى خلصا، بل هم رجال كهنوت، لا يشك أبناء دينهم في نصرانيتهم.

وقويت عند أوروبا الشبهة، بل تمكنت، لما فتحت عليها أبواب كل شيء على حد سنة الاستدراج: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)، فأيقنت على حد الجزم القاطع أن دين الكنيسة هو سبب تأخرها عن الركب الإنساني الذي كان المسلمون يومئذ أدلاءه ورواده بمقتضى ما ألزمهم به الوحي الصحيح على حد الإيجاب في نحو قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، ثم أداها ذلك التصور الفاسد إلى قياس فاسد أطلقوا فيه الدين عن قيد الكنيسة فجعلوا الدين عموما، ولو كان وحيا محفوظا، سبب تأخر الأمم بما يفرضه من قيود على العقول الحرة المستنيرة، ولم يسلم الأمر، كحال أي رد فعل مضاد، من غلو في الجانب الآخر، فتضخم مفهوم العقل وتضاءل مفهوم الدين، حتى صار العقل مهيمنا على مقررات الحياة الفكرية الأوروبية فانسلخ من الدين بالكلية، فلا وحي يضبطه، ولا نبوة يتلقى منها إجابات صحيحة صريحة عن الأسئلة المصيرية المطروحة في ذهن كل إنسان بمقتضى ما فطره الله، عز وجل، عليه من الحركة والهم تحصيلا لأسباب النجاة والسعادة الأبدية، فتلك من المشتركات العقلية بين كل أفراد النوع الإنساني، وإن كابر بعضهم فاظهر الإلحاد فغايته أن يكون من أهل: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).

وسرى نفس القياس الفاسد إلى عقول المستغربين من أبناء الشرق المسلم لا سيما مع حالة الجمود الفكري التي أصابت العقل المسلم في عصور الركود المتأخرة، فقد واكب ذلك تراجع كبير في كافة مناحي الحياة: فانهارت الدولة السياسية وضعفت المؤسسات العسكرية وتضاءلت دخول الأفراد، فتبع ذلك انهيار الحياة الاجتماعية لا سيما مع تراجع بل عدم الوازع الديني في كثير من الأحيان، إذ تقلص دور الدين في حياة الأفراد والجماعات فرعا عن سنوات بل عقود من تفريغ الدين من محتواه، فصار رسوما ظاهرة بلا حقائق باطنة تبعث الهمم إلى طلب معالي الأمور الدينية والدنيوية، كما كان حال الصدر الأول الذين حققوا الدين واقعا في عالم الشهادة فخرجوا به عن حد التصور الذهني إلى حد الوجود الفعلي فكان له أثر بارز في قيادة النفوس في كل الشئون، فانطلقت الجيوش لفتح الأمصار، وحمل عسكر الرسالة الوحي لغزو القلوب بإثارة كوامن فطرة التوحيد فيها ومخاطبة صرائح المعقول المركوزة فيها، فاجتمع للدين: الكتاب الهادي بأخباره وأحكامه، بمسائله الإيمانية وأدلته العقلية، والحديد الناصر الذي يزيل العقبات الطاغوتية من طريق آخر الرسالات السماوية. فإن سنة التدافع قد اقتضت أن ينافح الطواغيت بشراسة عن رياساتهم ووجاهاتهم ومآكلهم التي جاء الإسلام ليقضي عليها برد السلطان إلى صاحبه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير