تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهو أمر قد اطرد في كل الحملات الصليبية القديمة والحديثة على الشرق المسلم، فالمرأة سلاح فعال في تلك الحملات، وإفساد نساء المسلمين هدف رئيس، ومقررات الدراسة المصنفة في جامعاتهم والمطبوعة في مطابعهم والمصدرة إلى دول العالم الإسلامي لتصير مناهج دراسية ملزمة طمسا للعقلية الإسلامية، كما فعل الأمريكان بعد اجتياح بلاد الأفغان، خير شاهد على هذا المسلك المطرد فالغزو شامل للأديان والأخلاق والأبدان.

فكان الشرق مفتونا في نفسه لبعده عن سبب عزه وظهوره، فقد انحسر مفهوم الديانة في وجدانه فاقتصر على الشعائر والتصورات دون أن يكون له أثر في واقعه، وذلك مما سهل الأمر على رواد العلمانية في الشرق، ليكرروا تجربة أساتذتهم الذين لا يخجلون بل يفتخرون بالانتساب إليهم والنقل عنهم والتأسي بهم، مع فارق جوهري، هو أن الدين في أوروبا كان ممكنا، فخاض العقل معه معركة سحقه فيها لا سيما في الميادين العقلية التي أثبت فيها العقل الأوروبي قصور بل بطلان نظريات الدين الكنسي الذي أقحم نفسه، كما تقدم، في شتى مناحي الفكر الإنساني ولو كان تجريبيا محضا، فتصور التناقض بينهما جائز بل واجب، إذ العقل قد اكتشف من سنن الكون ما يخالف المأثور من نقل الكنيسة المبدل، فصدق قياس عقله وأنكر وحي الكنيسة، فقد ظهر أنه عرضة للنقد بل الإبطال تاريخيا وعلميا، بل دينيا، مع أن المفترض أن تكون له الريادة في ذلك، ولكنه لما خرج عن مقررات دين التوحيد: دين المسيح عليه السلام، كان لا بد أن يقع في جملة من التناقضات تكشف عواره وتزهد أتباعه فيه، وقد كان، بل اشتط العقل، كما تقدم، في عداوته، فأقصاه ومارس التصفية الفكرية بل الجسدية في بعض الأحيان لرموزه، فهم رموز حقبة طويلة من الطغيان والقهر، فهذا حال الدين الذي حاربه رواد العلمانية في الغرب بعقلية لا تخلو، أيضا، من طغيان وشطط، فقابلوا غلو الكنيسة، كما تقدم، بغلو عقولهم التي صارت لها السيادة المطلقة في كل شأن، ولو كان إلهيا غيبيا محضا، فمن عبودية مطلقة إلى سيادة مطلقة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

وذلك بخلاف الدين الذي حاربه رواد العلمانية في الشرق، فهم لم يحاربوا الإسلام بذات العقلية الطاغوتية التي ورثوها عن أساتذتهم في أوروبا، إذ لا قبل لهم بحرب الإسلام بمقرراته الفكرية التي ترتكز إلى قاعدة راسخة من منقول صحيح هو إرث الرسالة الخاتمة الذي حفظه رجال القرون الأولى من العلماء أصحاب الديانة الراسخة فلا يتطرق الشك إلى أمانتهم العلمية، والحفظ والضبط والنقد، الذي أعيى الورى أن يجيئوا بمثله، فشهد له المخالف قبل الموافق بل صار رائدا لعلوم النقد التاريخي الحديثة بإجراء قوانينه على الأحداث التاريخية إجراءها على الأخبار الدينية، ومعقول صريح لا يخالف ما جاءت به النبوات بل يزداد ذكاؤه وزكائه بالتسليم والانقياد لها في الإلهيات والنظر والتأمل في الطبيعيات فذلك من جملة ما أمرت به على حد الإيجاب، كما تقدم، فلا قبل لهم بحرب دين تلك مقرراته، وإنما حاربوا ما ظنوه إسلاما من مظاهر التخلف الحضاري: مدنية وفكرا آنذاك.

وكثير منهم كان مغرضا، فشن الحرب على مظاهر التخلف الحضاري في الشرق المسلم ليتذرع بذلك إلى حرب الإسلام نفسه، بقياسه على الإكليروس النصراني، فللإسلام الذي حرر العقول من الأوهام والخرافات ما للكهنوت من طغيان على العقول والأبدان، وذلك القياس هو سلاح كل علماني الشرق، ويصوغه شبلي شميل، أحد نصارى الشرق وقد كانوا رأس حربة متقدم للهجمة العلمانية التغريبية على الشرق المسلم، يصوغه بقوله:

"والأمم تقوى بمقدار ما يعف الدين، فهذه أوروبا لم تصبح قوية ومتمدنة فعلاً إلا عندما حطم الإصلاح والثورة الفرنسية سلطة الإكليروس على المجتمع وهذا يصح أيضاً على المجتمعات الإسلامية". اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير