تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فتلك فتنة الشرق في نفسه، وأما فتنته لغيره فظاهرة فقد أغرى كل طامع طامح ليغزوه ويستبيح أرضه وثرواته، وعقائده وشرائعه قبل ذلك، فالاستعمار الحديث ما هو إلا حملات صليبية مهد لها قساوسة متعصبون تزيوا بزي البحث العلمي الحيادي في العلوم الشرقية فكانت توصياتهم العلمية إلى حكوماتهم محل نظر واعتبار قبل بدء تلك الحملات فقد كان معظمهم جواسيس رصدوا الحياة في الشرق المسلم آنذاك في كافة مناحيها، فضلا عن مشاركتهم الفاعلة في تلك الحرب الضروس، فقد تولوا أخطر جبهاتها: الجبهة الفكرية، فجاءت دراساتهم التي يدعي من يدعي من المستغربين موضوعيتها وإنصافها، جاءت لتثير الشبهات العقدية المندثرة فأحيوا المقالات القديمة، واستلهموا منها كل ما يشكك المسلم في دينه، فلم تتحل تلك الدراسات بأي موضوعية أو حيادية، بل العجيب أن يتحلى بعضها بنوع إنصاف وهو قليل لا يكاد يذكر، وذلك الجور والشطط هو فرع عن تعصب أولئك القساوسة، فهم، كما تقدم، لم يحاولوا يوما من الدهر أن يفهموا الإسلام، وأن يطلعوا عليه من مصادره الأصلية المحررة، بل كان جل همهم تشويهه في أنظار شعوبهم، وهو أمر مستمر إلى اليوم، بل قد زاد بما استحدث من وسائل الإعلام والنشر، فتركوا محكمه وتتبعوا متشابهه في التواريخ وكتب الأسمار ليقدموه: سلسلة من الصراعات السياسية لتحصيل شهوات ومآرب خسيسة، وتلك نظرة كثير من العلمانيين في زماننا، حتى تجرأ أحدهم، ممن أفتى العلماء المحققون بردته، فنسب ذلك المسلك الشائن إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وصد كثيرا من العقلاء عن انتحال الإسلام بما رأوه ولا يزالون يرونه إلى اليوم من مظاهر التخلف والانحطاط في مجتمعاته.

فتلك الظروف التي يمكن من خلالها دراسة أثر الفكر الإسلامي في الفلسفة الغربية الحديثة، فيزول العجب من حملهم كل خبيث مستكره جادت به قريحة فيلسوف منسلخ من الديانة، أو مرجوح زل فيه أحد الفضلاء المشهود لهم بالإمامة، فكانوا كالذباب لا يقع إلا على القيح والصديد، فموقفهم العدائي الرافض للإسلام ابتداء حاكم مهيمن على عقولهم حتى في معرض الانتفاع بثماره، وذلك من نكران الجميل بمكان.

ومن الأمثلة على ذلك التأثر الذي يظهر أثره الإيجابي في الطبيعيات، ويتوارى في الإلهيات وقضايا الوجود والمعرقة والقيم، إذ يقف أولئك على حد المشاقة للوحي فيها، من الأمثلة على ذلك في ميدان البحث الفكري:

ما ثبت تاريخيا من تأثر رواد النهضة الأوربية من أمثال إدلارد أوف باث، وميخائيل سكوت، وألبرت الكبير، وروجر بيكون، وتوماس الإكويني، مع تعصبه وتطرفه، وقد كان تأثرهم بالحضارة الإسلامية مزدوجا:

فحمل بيكون على سبيل المثال المنهج التجريبي الذي نقض به فلسفة أوروبا الأرسطية النظرية، فكان ذلك من أسباب انطلاق المدنية الأوروبية الحديثة، فقد بدأت أوروبا من حيث انتهى المسلمون، رواد العلوم التجريبية في القرون الوسطى، فتاريخهم في الطبيعيات شاهد بريادتهم في ذلك، بدأت من حيث انتهوا على ما اطرد من السنة الكونية: سنة: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) على القول بأن الوراثة: وراثة أسباب الكون التي يمكن بها للأمم، ولو كانت على خلاف الشرع، على حد قول ابن تيمية رحمه الله: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة"، فورثت أوروبا أسباب المدنية من الحضارة الإسلامية، ولم يكن لها، كما تقدم، من رحابة الصدر وسعة الأفق ما يجعلها تنظر إلى الشق الثاني من الحضارة الإسلامية، وهو الشق الأسمى، الذي كان كفيلا بحل أزمات أوروبا الإنسانية الحالية، ولكنهم في تحكم عجيب، انتقوا ما يحل أزماتهم المادية وتركوا ما يحل أزماتهم المعنوية، وذلك من التفريق بين المتماثلين، فالسيد الجديد للعالم لا يرضى أن يتبع غيره في دين أو دنيا، فذلك طرف من هيمنة القطب الواحد الذي يعاني منها العالم اليوم، فإن سنة التدافع قد اقتضت أن يفرض القوي شرائعه وأحكامه وأخلاقه على الضعيف، فلن يكتفي بمصادرة ثرواته بل سيسعى إلى مصادرة أفكاره واستبدال قيم الحضارة التجديدية بقيم الإسلام التقليدية!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير