وذلك على حد بداية الحضارة الإسلامية من حيث انتهت الحضارة اليونانية، فقد ورثت أمة الإسلام علومها عن طريق حركة الترجمة، فأبدعت فيما حملته عنها من طبيعيات إذ كان لكثير من فلاسفة اليونان قدم راسخ فيها، فلهم في الطبيعيات أبحاث نافعة، أشار إليها ابن تيمية، رحمه الله، في مواضع من كتبه كقوله في معرض نقد طريقتهم في الإلهيات:
"وإنما كان القوم يعرفون ما يعرفونه من الطبيعيات والرياضيات كالهندسة وبعض الهيئة، (وهو: علم الفلك الذي برعوا فيه تسييرا مباحا وتأثيرا محرما فكثير منهم كان ينتحل طريقة الصابئة في اعتقاد تأثير الأجرام السماوية في الأحداث الأرضية)، وشيئا من علوم الأخلاق والسياسات المدنية والمنزلية التي هي جزء مما جاءت به الرسل". اهـ
بتصرف من: "الجواب الصحيح"، (3/ 23).
ولكنها ضلت، أيما ضلال، فيما حملته عنها من إلهيات، فقد كفيت الأمة مؤنة الديانة: إلهيات وأحكاما وسياسات وأخلاقا، وإن ظن طائفة من المتكلمين وأهل الرأي والمتملكين والمتزهدين عدم كفاية الوحي في هذا الباب فذلك لقصور في علومهم وفهومهم لا لقصور في الوحي المنزل، والناس أعداء ما جهلوا، وكثير منهم جاهل بل مغرض لا يعلم ولا يريد أن يعلم، فهو على حد الإباء والاستكبار عن طلب الحق والعمل به.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في مستهل كتابه "الاستقامة" في معرض تقرير قاعدة كلية جامعة انتهجها في سائر مناقشاته لنصوص رسالة القشيري، رحمه الله، بل هي قاعدة تقرر مكانة الوحي وعدم الحاجة إلى مقررات تضاف إليه، يقول:
"الرأي المحدث في الأصول وهو الكلام المحدث وفي الفروع وهو الرأي
المحدث في الفقه والتعبد المحدث كالتصوف المحدث والسياسة المحدثة.
يظن طوائف من الناس أن الدين محتاج إلى ذلك لا سيما كل طائفة في طريقها وليس الأمر كذلك فإن الله تعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، إلى غير ذلك من النصوص التي دلت على أن الرسول عرف الأمة جميع ما يحتاجون إليه من دينهم.
وقال تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون).
وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي إلا هالك".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ".
فلولا أن سنته وسنة الخلفاء الراشدين تسع المؤمن وتكفيه عند الاختلاف الكثير لم يجز الأمر بذلك ......... ولا ريب أن هذا يشكل على كثير من الناس لعدم علمهم بالنصوص ودلالتها على المقاصد ولعدم علمهم بما أحدث من الرأي والعمل وكيف يرد ذلك إلى السنة كما قال عمر بن الخطاب: "ردوا الجهالات إلى السنة" وقد تكلم الناس على أصناف ذلك كما بين طوائف استغناء الدين عن الكلام المحدث وأن الله قد بين في كتابه بالأمثال المضروبة من الدلائل ما هو أعظم منفعة مما يحدثه هؤلاء وأن ما يذكرونه من الأدلة فهي مندرجة فيما ذكره الله تعالى". اهـ
فأدلتهم العقلية، أو ما صح منها بلفظ أدق، شعبة من القياس القرآني الصحيح فهو ميزان مطرد منضبط لا يعرض له ما يعرض للموازين العقلية البشرية من اضطراب وخلل، وإليه أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله في معرض المقارنة بين طريقة القرآن وطريقة أهل المنطق:
"فَإِنَّ الْوَسِيلَةَ الْقُرْآنِيَّةَ قَدْ أَشَرْنَا إلَى أَنَّهَا فِطْرِيَّةٌ قَرِيبَةٌ مُوَصِّلَةٌ إلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ وَتِلْكَ قِيَاسِيَّةٌ بَعِيدَةٌ؛ وَلَا تُوَصِّلُ إلَّا إلَى نَوْعِ الْمَقْصُودِ لَا إلَى عَيْنِهِ". اهـ
فطريقة القرآن فيها من البرهان العقلي الصريح ما يفوق طرائق الفلاسفة، فضلا عن امتيازها بالاختصار وإصابة عين المقصود تحديدا فتعريفاته يحصل بها تمييز المعرف بخلاف طريقة المناطقة التي تبالغ في التجريد فتثبت كليات مطلقة لا يتحقق بها إلا تعريف النوع الذي يعم أفرادا تحته، فلم يزل التعريف إلا قدرا من الإجمال وبقي الأمر مفتقرا إلى مزيد بيان بتحديد الفرد المعرف بعينه.
¥