تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وطريقة القرآن مع ذلك: تمتاز كسائر أفراد الوحي المنزل من الكتب والرسالات، تمتاز بالفطرية التي تخاطب القلوب فيحصل الناظر فيها غذاء عقليا وروحيا كاملا في آن واحد، وإن كان القرآن أشرفها في هذا الباب إذ قد جمعت هذه الرسالة لباب الرسالات السابقة علوما وأحوالا وأعمالا، بخلاف الطريقة الفلسفية فغايتها أن يحصل الناظر فيها غذاء عقليا ناقصا يفتقر إلى مزيد بيان، كما تقدم، فضلا عما يصيب فطرته من جفاف بسبب مباشرة الحدود المنطقية الصارمة التي لا تصلح في باب غيبي قلبي كباب الإلهيات.

ويقول، رحمه الله، في "الصفدية":

"ومن وجد من هذه الأمة محتاجا إلى شيء غير ما جاء به الرسول فلضعف معرفته واتباعه لما جاء به الرسول مثل كثير منهم من يقول أنه يحتاج إلى الإسرائيليات وغيرها من أحوال أهل الكتاب وآخرون منهم من يقول أنهم محتاجون إلى حكمة فارس والروم والهند واليونان وغيرهم من الأمم وآخرون يقولون أنهم محتاجون إلى ذوقهم أو عقلهم أو رأيهم بدون اعتبار ذلك بالكتاب والسنة.

ولا تجد من يقول أنه محتاج إلى غير آثار الرسول إلا من هو ضعيف المعرفة والاتباع لآثاره وإلا فمن قام بما جاء به الكتاب والسنة أشرف على علم الأولين والآخرين وأغناه الله بالنور الذي بعث به محمدا عما سواه". اهـ

"الصفدية"، (1/ 260).

وليست النوازل مما يستدرك به على هذا العموم المحفوظ إذ قد قرر الشرع وسائل استنباط النوازل الحادثة بإدخالها في كليات جامعة دخول الجزء في كله، فضلا عن وقوع كثير من نظائرها فتقاس عليها، فكليات الشرع شاملة لأجناس الحوادث دون أعيانها، وكثير من النوازل الحادثة تقاس تمثيلا على النوازل الكائنة التي حفظت لنا أحكامها ونقلت بأصح طرق الرواية، فذلك أصل آخر انفرد به العقل المسلم المؤيد بالوحي الصحيح عن بقية العقول التي ردت إلى قياسها فمرة تصيب ومرات بل عشرات تخطئ.

ولكن الترف الفكري تارة، والكيد للإسلام تارة أخرى، إذ كانت اليد العليا في حركة الترجمة لأفراد لهم من المعارف قدر كبير، وليس لهم من الديانة ذات القدر فهم إما: كافر أصلي يهودي أو نصراني، أو مبتدع قد غلظت بدعته، وقد كانت فتنة خلق القرآن أحد ثمار تلك الترجمة العشوائية لإلهيات أمة وثنية، أو زنديق مستتر بالإسلام ليكيد له، ولعل الاتهامات التي وجهت إلى البرامكة ذوي الأصول الوثنية كان من ضمن مستنداتها إشرافهم على ترجمة كتب الزنادقة والشعوبيين والله أعلم بحالهم، هذان العاملان قد أغريا أمة الإسلام بنقل إلهيات أمة اليونان، فكان ما كان من سنة النقصان بعد الكمال، ولكن الإسلام بقي محفوظا، وإن خفيت أعلامه في بعض الأمصار أو الأعصار، بخلاف الديانات الأخرى التي غزتها الفلسفات الوثنية حتى نفذت إلى جوهرها وأتت على أصلها بالإبطال.

فضلا عن وقوع أخطاء جسيمة في الترجمة لعدم التخصص فالطبيب يترجم كتابا في الإلهيات لمجرد أنه يجيد اللغة التي كتب بها دون أن يكون له إلمام بالعلم الذي ينقله، فليس مجال بحثه، وهو فرع عن الخلط الأول الذي وقع لأمة اليونان في المزج بين الطبيعيات والإلهيات وجعلهما على قدم المساواة فكل من برع في الطبيعيات لا بد أن يكون بارعا في الإلهيات وكأن موضع البحث في كليهما واحد، وكأن العقل يملك من القوى ما يؤهله لإدراك كليهما على وجه الجزم واليقين وهو الذي لا يستطيع الجزم بكثير من الحقائق المشاهدة فضلا عن الحقائق المغيبة، وهو أمر لا يزال العقل البشري يعاني منه إلى اليوم، فكثير من مشاهير الأطباء والمهندسين بل ورجال المال والأعمال يجيز لنفسه الخوض في مسائل لو وقعت على زمن عمر، رضي الله عنه، لجمع لها أهل الشورى، ومستنده الوحيد في ذلك أنه: ذكي وناجح في ميدان بحثه التجريبي أو عمله التجاري!، مع أنه يأبى أشد الإباء أن يتكلم أحد من غير المختصين إذا كان الأمر يتعلق بميدان بحثه أو مجال عمله، فالاختصاص محترم في كل المجالات إلا الشرعية منها!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير