تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والشاهد من كل ذلك أن أمثال بيكون ومن بعده هيجل قد تأثروا بمقررات علماء المسلمين في نقض فلسفة أرسطو مع أن هيجل لم يتطرق إلا إلى جوانب كلية مجملة بخلاف ما فعله ابن تيمية، رحمه الله، من نقض تفصيلي لمقررات الفكر الأرسطي الاستنباطي، مع إنصافه لهم ولمن حمل عنهم من الفلاسفة الإسلاميين فيما أصابوا فيه من الطبيعيات.

وأما توماس الإكويني، فقد حمل عن ابن رشد، رحمه الله، أسوأ بضاعته، فقد كان ابن رشد من أساطين الفلاسفة الإسلاميين الذين عنوا بترجمة وشرح فلسفة أرسطو حتى طعن فيه بسبب ذلك عند الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب المنصور، رحمه الله، فحمل توماس عنه تلك البضاعة المزجاة، كما ذكر ذلك أثين بلاسيوس، المستشرق والشاعر الإسباني، وهو بلدي ابن رشد، فكلامه في هذا الشأن له وزنه، فضلا عما قرره رينان مع تعصبه الشديد هو الآخر ضد الحضارة الإسلامية، وقد كان اتصال الأندلس ببقية أوروبا جغرافيا، وابن رشد أحد أبناء الحضارة الأندلسية التي كانت آنذاك صورة من أرقى صور التقدم العلمي العالمي عموما والإسلامي خصوصا، كان لهذا الاتصال أثره في انتقال آراء ابن رشد إلى مقررات الكنيسة الكاثوليكية التي أعرضت عن الرسالة الخاتمة، ولكنها، في مفارقة عجيبة لم تجد إلا أحد أبناء تلك الرسالة لتحمل عنه فلسفتها الرسمية، فذلك جار على حد انتقائية وعنصرية العقل الأوروبي النصراني، فهم مدينون لأبناء الإسلام في هداهم إلى أسباب الكون بما حملوه عنهم من طبيعيات، وفي ضلالهم عن أسباب الشرع بما حملوه عنهم من إلهيات لا تمت لجوهر الإسلام بصلة.

فمما حمله توماس عن ابن رشد:

رأيه في قضية خلق العالم، ونظريته في المعرفة، ونظريته في العلم الإلهي. كذلك أخذ عن ابن رشد وغيره من فلاسفة المسلمين آراءهم في قضية التوفيق بين الدين والفلسفة، أو بين العقل والوحي.

فابن رشد "كان يريد البرهنة على أن الفلسفة الحقة، كما تصورها هو، تتفق تماما مع الدين الموحى به، وذلك لأن الحقيقة واحدة، ولا يمكن أن تتعدد، فالله يهبها إما عن طريق الوحي، وإما عن طريق العقل! الذي ينتهي إلى الإيمان بما جاء به الوحي، ومسلك ابن رشد هنا نجد ما يماثله تماما عند توماس الإكويني بالنسبة إلى الفكر المسيحي، وعند موسى بن ميمون فيما يتصل بالفكر اليهودي، ولكن يلاحظ أن هذه المحاولات الثلاث للتوفيق بين الوحي وفلسفة أرسطو تقع في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وأولها محاولة ابن رشد".

"أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام"، ص120، 121.

ولا شك أن تلك المحاولات قد باءت بالفشل إذ رام أصحابها الجمع بين متناقضين، وكلما زاد فساد صاحب المحاولة في باب الإلهيات ظهر فشل محاولته بصورة أظهر، فليس فشل ابن رشد، رحمه الله، كفشل توماس وموسى، فإن الشر في المسلمين كائن، ولكنه في غيرهم أعظم، لقرب الأولين من الرسالات، معقد العصمة في هذا الباب، وبعد الآخرين عنها، وبقدر البعد عن مقررات الوحي يكون الخطأ كما سبقت الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع.

وإذا كانت الحقيقة واحدة لا تتعدد في باب الإلهيات الخبرية بل في باب الطبيعيات التجريبية التي تتفاوت فيها الأنظار، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن يصل العقل إليها، فإنه عاجز عن إدراك حقائق العالم المشهود كما هي في نفس الأمر فغايته أن يدرك ظاهرا منها، فهو يدرك أعراض الحياة من نبض وحرارة بدن، ولا يدرك سر تلك الحياة التي تسري في الخلايا والأنسجة فإذا نزع منها فسدت وإن لم تكن من جهة الكفاءة الحيوية والميكانيكية قاصرة فموت الفجأة يرد على أبدان سليمة فيسلبها مادة الحياة فتسكن بعد أن كانت متحركة، وتفسد بعد أن كانت صالحة، ولا يدرك العقل، كما تقدم، سر تلك الحياة، وإن كان يدرك أثرها في الأبدان الحية المتحركة. (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير