تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا كان هذا حاله في الطبيعيات المشهودة فكيف يمكنه بمفرده، بلا ولاية للوحي المنزل عليه ليعصمه من الزلل في هذا الأمر الجلل، أن يصل إلى الحقيقة التي جاء بها الوحي؟!، وحال من خاض في هذا الأمر بعقله ثم ندم ورجع كالجويني والرازي، رحمهما الله، شاهد عدل على ذلك، فضلا عمن خاض في تلك اللجة ولم يدرك النجاة من الفلاسفة الذين استقلوا زورق العقل في بحر لا ساحل له بلا دليل هاد من الوحي النازل.

فالعقل غايته أن يدرك في هذا الباب أمورا مجملة لا يحصل بها بيان واف ولا نجاة، إلا لمن خفيت عنه آثار الرسالات فنشأ في غابة او فلاة لم يصلها خبر النبوات فأدرك من الإلهيات جملا مركوزة في فطرته هي آثار الميثاق الأول أو مات صغيرا فلم يجر عليه قلم التكليف، فذلك ينفعه الميثاق الأول، بخلاف من نشأ في أرض قد تواتر فيها خبر النبوات، فإنه يلزمه، بما أوتي من صحة آلة للنظر والتدبر، أن ينظر في أدلتها، فإن صحت دعوى النبي الذي توجه خطابه إليه لزمه الانقياد والتسليم لما جاء به.

وابن رشد، رحمه الله، مع كونه ممن خاض في هذا الباب بآلة الفلسفة المجردة، فإنه مقر بأن العقل لا يصل بنفسه إلى أمر يقيني في هذا الباب، كما حكى ابن أبي العز، رحمه الله، ذلك عنه في شرح الطحاوية، بل هو ممن قال بالخصوص والعموم في التكليف جريا على طريقة الفلاسفة الأولين، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية، رحمه الله، في "بيان تلبيس الجهمية" بقوله:

"والقاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد الفيلسوف مع فرط اعتنائه بالفلسفة وتعظيمه لها ومعرفته بها حتى يأخذها من أصولها فيقرأ كتب أرسطو وذويه ويشرحها ويتكلم عليها ويبين خطأ من خالفهم مثل ابن سينا وذويه وصنف كتبا متعددة مثل كتاب "تهافت التهافت" في الرد على أبي حامد، (وهو الغزالي رحمه الله)، فيما رده على الفلاسفة في كتاب "تهافت الفلاسفة" وكتاب "تقرير المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة في الاتصال" وغير ذلك قال في كتابه الذي سماه "مناهج الأدلة" على الأصولية وقد ضمن هذا الكتاب بيان الاعتقاد الذي جاءت به الشريعة ووجوب إلقائه إلى الجمهور كما جاءت به الشريعة وبيان ما يقوم عليه من ذلك البرهان للعلماء كما يقوم به ما يوجب التصديق للجمهور وذكر فيه ما يوجب على طريقته أن لا يصرح به للجمهور وذكر فيه ما يوجب من الأمور التي قام عليها البرهان على طريقة ذويه". اهـ

وأشار إلى ذلك، أيضا، ابن القيم، رحمه الله، في "الصواعق المرسلة" في معرض كلامه على مقالة أهل التخييل بقوله:

"وهم الذين اعتقدوا أن الرسل لم تفصح للخلق بالحقائق إذ ليس في قواهم إدراكها وإنما خيلت لهم وأبرزت المعقول في صورة المحسوس قالوا ولو دعت الرسل أممهم إلى الإقرار برب لا داخل العالم ولا خارجه ولا محايثا له ولا مباينا له ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره لنفرت عقولهم من ذلك ولم تصدق بإمكان وجود هذا الموجود فضلا عن وجوب وجوده، (وذلك مئنة من صحة عقولهم وفطرهم)، وكذلك لو أخبروهم بحقيقة كلامه وأنه فيض فاض من المبدأ الأول على العقل الفعال ثم فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لم يفهموا ذلك ولو أخبروهم عن المعاد الروحاني بما هو عليه لم يفهموه فقربوا لهم الحقائق المعقولة في إبرازها في الصور المحسوسة وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور ومصيرها إلى جنة فيها أكل وشرب ولحم وخمر وجوار حسان أو نار فيها أنواع العذاب تفهيما للذة الروحانية بهذه الصورة والألم الروحاني بهذه الصورة وهكذا فعلوا في وجود الرب وصفاته وأفعاله ضربوا لهم الأمثال بموجود عظيم جدا أكبر من كل موجود وله سرير عظيم وهو مستو فوق سريره يسمع ويبصر ويتكلم ويأمر وينهى ويرضى ويغضب ويأتي ويجيء وينزل وله يدان ووجه ويفعل بمشيئته وإرادته وإذا تكلم العباد سمع كلامهم وإذا تحركوا رأى حركاتهم وإذا هجس في قلب أحد منهم هاجس علمه وأنه ينزل كل ليلة إليهم إلى سمائهم هذه فيقول من يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له إلى غير ذلك مما نطقت به الكتب الإلهية قالوا: ولا يحل لأحد أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور لأنه يفسد ما وضعت له الشرائع والكتب الإلهية.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير