تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد حكى بعض أهل العلم ما قد ذكر من توبة ابن سينا ورجوعه قبل موته، وأنه أكثر في آخر حياته من الصلوات والصدقات طلبا لغفران تلك الزلات، فالله أعلم بمآله وليس للمكلفين في عالم الشهادة إلا الحكم على الظاهر، فالأحكام في دار الابتلاء قد علقت على الظواهر والله، تبارك وتعالى يتولى السرائر، وقد وصلنا من ظاهر فساد مقالته في الإلهيات وصلاحها في الطبيعيات لا سيما الطب ما قد علم.

فلعل الله عز وجل يكون قد تاب عليه قبل موته.

ويكشف "جون لويس" عن المكانة التي وصلت إليها فلسفة ابن رشد في الحضارة الأوروبية المعاصرة بقوله:

"وقد بلغ رواج الأرسطية درجة مطلقة إلى حد أن كل أستاذ في الآداب بجامعة باريس في عام 1347 كان عليه أن يقسم ألا يدرس مذهبا يتناقض مع مذهب أرسطو وشارحه ابن رشد! ". اهـ

"أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام"، ص121، 122.

وهو أمر قد يبتهج به بعض المسلمين، ولكنه، عند التحقيق، لا يمثل انتصارا فكريا للحضارة الإسلامية، بل هو امتداد لتأثر العقل الإنساني بمقررات الفلسفة اليونانية، وإن هذبها فلاسفة الإسلام وقربوها إلى الأديان، ولكنها لم تخرج عن جوهرها المضاد للوحي، فلم تفلح تلك المحاولة التلفيقية في التوفيق بين هذين المتناقضين.

وعموما لم يكن أثر تلك الفلسفة على العقل الأوروبي إيجابيا سواء كانت أرسطية أو رشدية، وإن كانت الرشدية أقرب إلى قياس العقل الصريح لكون صاحبها من أتباع النبوات.

ومن أمثلة هذا التأثر أيضا:

تأثر "ليبنتز" بمقررات المعتزلة في مسألة القدر، فالمعتزلة القدرية حملوا بدعة نفي القدر عن أهل الكتاب، لا سيما النصارى، الذين دسوا كثيرا من الشبهات العلمية في محيط الدرس الإسلامي، فكان "سوسن" النصراني أستاذ معبد الجهني أول من أظهر بدعة نفي القدر، كما عند اللالكائي، رحمه الله، في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" من طريق: محمد بن شعيب، قال: سمعت الأوزاعي، يقول: «أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد».

وعند الخلال، رحمه الله، من طريق: عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي قال: ثنا أبو سعيد مولى بني هاشم قال: حدثني ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه، قال: قال أصحاب مسلم بن يسار: كان مسلم يقعد إلى هذه السارية، فقال: إن معبدا يقول بقول النصارى: يعني معبدا الجهني.

"السنة"، (1/ 528).

فضلا عن مجادلات يوحنا الدمشقي لقدرية زمانه، فهي تعتبر موردا من موارد الفكر الاعتزالي، إذ كان يقول بالأصلح، (وهي مقالة المعتزلة في إيجاب فعل الأصلح للعبد على الله، عز وجل، على حد ما اطرد في مقالتهم من سوء أدب مع الرب، تبارك وتعالى، بقياس فعله على فعل العباد، فما حسن منهم حسن منه، وما قبح منهم قبح منه!)، ونفي الصفات الأزلية وحرية الإرادة الإنسانية، (وهي مقالة نفي القدر).

ثم جاء "ليبنتز" ليسترد تلك التركة من المعتزلة، فعد ذلك نصرا للحضارة الإسلامية، مع أنه، عند التحقيق، انتقال شبهة من جيل إلى جيل، مع ما طرأ عليها من تعديل وتحوير قربها إلى الأديان لتقبلها الأذهان!، وذلك شأن كل مقالة حادثة.

فلا تعجب إذن إن رأيت احتفاء النصارى في العصر الحاضر بالمعتزلة فهم أرباب الفكر الحر، بل: أحرار الإسلام كما يدعي القوم!، فهم صنيعتهم، وكل صانع منتصر لصنيعته بداهة، مع أن كثيرا من المعتزلة لم يكونوا كفارا أو زنادقة، بل راموا الدفاع عن الملة ولم يتزودوا منها بزاد الوحي النافع فكانت معركتهم مع أعداء الإسلام معركة عقلية محضة، إذ جردوا عقولهم من أمضى الأسلحة: سلاح الوحي الذي يزكي العقول بطرائق البحث والنظر الصحيحة، فلما وكلوا إلى عقولهم ظهر عليهم خصومهم إذ بضاعتهم من علوم الفلسفة والمنطق أكثر، والغلبة للأكثر إن عزلت النبوة عن القيادة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير