وتلك إشكالية معاصرة إذ كثير من العقلانيين بل العلمانيين يزعم الانتصار للإسلام من خصومه الذي يرمونه بالجمود فيعظم العقل ويحقر الشرع في رد فعل مضاد للتهم الموجهة إلى الإسلام، فيرد باطلا بباطل، وهذا ما يسعى إليه الغرب فهو يكيل التهم للخصم ليستزله فيعطي الدنية في دينه برسم إظهار سماحة الإسلام وعدله فينتقص بنفسه من الملة، وبتعاظم الضغط النفسي الناشئ من توالي التهم ينتقص أكثر وأكثر، فقد كفى العدو مؤنة نقض الشريعة بما يجنيه عليها باسم الانتصار لها وإظهار محاسنها!.
وانتقلت فكرة الإيجاب على الله، عز وجل، من المعتزلة إلى ابن عربي إلى "ليبنتز"، فيجب على الله، كذا وكذا، عموما، بمقتضى قياس الشمول الفاسد الذي قاسوا به أفعال الرب، جل وعلا، على أفعال العباد.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"ليس في طوائف المسلمين من يقول إن الله تعالى يفعل قبيحا أو يخل بواجب ولكن المعتزلة ونحوهم ومن وافقهم من الشيعة النافين للقدر يوجبون على الله من جنس ما يوجبون على العباد ويحرمون عليه ما يحرمونه على العباد ويضعون له شريعة بقياسه على خلقه فهم مشبهة الأفعال وأما المثبتون للقدر من أهل السنة والشيعة فمتفقون على أن الله تعالى لا يقاس بخلقه في أفعاله كما لا يقاس بهم في ذاته وصفاته فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وليس ما وجب على أحدنا وجب مثله على الله تعالى ولا ما حرم على أحدنا حرم مثله على الله تعالى ولا ما قبح منا قبح من الله ولا ما حسن من الله تعالى حسن من أحدنا وليس لأحد منا أن يوجب على الله تعالى شيئا ولا يحرم عليه شيئا.
فهذا أصل قولهم الذي اتفقوا عليه واتفقوا على أن الله تعالى إذا وعد عباده بشيء كان وقوعه واجبا بحكم وعده فإن الصادق في خبره الذي لا يخلف الميعاد واتفقوا على أنه لا يعذب أنبياءه ولا عباده الصالحين بل يدخلهم الجنة كما أخبر ............. وأيضا فأهل السنة يؤمنون بالقدر وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الهدى بفضل منه والقدرية يقولون إنه يجب عليه أن يفعل بكل عبد ما يظنونه هم واجبا عليه ويحرم عليه ضد ذلك فيوجبون عليه أشياء ويحرمون عليه أشياء وهو لم يوجبها على نفسه ولا علم وجوبها بشرع ولا عقل ثم يحكون عن من لم يوجبها أنه يقول إن الله يخل بالواجب وهذا تلبيس في نقل المذهب وتحريف له وأصل قول هؤلاء القدرية تشبيه الله بخلقه في الأفعال فيجعلون ما حسن منه حسن من العبد وما قبح من العبد قبح منه وهذا تمثيل باطل". اهـ
"منهاج السنة"، (1/ 447، 448، 454).
وقياس الشمول أحد الصور البارزة لتأثر العقل الإسلامي بمقررات فلاسفة اليونان فهم أول من قعد لقياس الشمول، بل واشتطوا في ذلك، حتى زعموا أن الكليات الذهنية التي تجوز الشركة فيها توجد في الخارج، فجعلوا تلك المقدمات الكبرى، وهي مقدمات مطلقة لا توجد في الخارج إلا مقيدة، جعلوها موجودة في الخارج بشرط الإطلاق وهو أمر يشهد العقل والحس ببطلانه.
ويجب عليه، عز وجل، عندهم، خصوصا أن يخلق أفضل عالم ممكن.
يقول ابن تيمية رحمه الله في معرض بيان هذه المسألة تحديدا:
"وما يحكي عن الغزالي أنه قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم فإنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة وقد أنكر عليه طائفة هذا الكلام وتفصيله أن الممكن يراد به المقدور ولا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ويقدر على غير ما فعله كما ........... بين ذلك في غير موضع من القرآن.
وقد يراد به إنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا". اهـ
¥