تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالقولان متفقان في الغاية وهي إثبات حكمة الرب، جل وعلا، ولكن أهل الاعتزال سلكوا مسلك الإيجاب على الرب، جل وعلا، وذلك قدح في طلاقة قدرته، عز وجل، النافذة على إيجاد كل الممكنات، على حد تظهر به آثار حكمته البالغة، بينما سلك أهل السنة مسلك الأدب فالمسألة ليست فرضا على الرب، جل وعلا، بمقتضى قياس العقل الفاسد للخالق، عز وجل، على المخلوق، وإنما هي محض كرم وجود وإحسان منه جل وعلا إلى عباده، وهو إحسان غير لازم فحده: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، فلم يكتبه أحد عليه، جل وعلا، بل كتبه على نفسه إظهارا لأوصاف جماله، كما كتب على العباد ما يجري عليهم من الأقضية الكونية إظهارا لوصف جلاله، فشتان الدليلان وإن آلا إلى مطلوب واحد.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض حكاية أقوال أهل السنة في مسألة الإيجاب على الله عز وجل:

"وقالت طائفة: بل هو أوجب على نفسه وحرم على نفسه كما نطق بذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله في الحديث الإلهي الصحيح: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما وأما أن العباد يوجبون عليه ويحرمون عليه فممتنع عند أهل السنة كلهم ومن قال إنه أوجب على نفسه أو حرم على نفسه فهذا الوجوب والتحريم يعلم عندهم بالسمع وهل يعلم بالعقل على قولين لأهل السنة". اهـ

"منهاج السنة(1/ 452).

ومن أمثلة ذلك التأثر أيضا:

تأثر "مالبرانش"، و "باركلي"، و "هيوم": بمقررات المتكلمين في نفي العلة المؤثرة، فالعلة، على طريقة أهل الكسب: اقترانية غير مؤثرة، وتلك شعبة من مقالة أهل الجبر، الذين نفوا الحكمة والتعليل في فعل الرب، جل وعلا، فغلوا في إثبات القدرة، وجفوا في إثبات الحكمة، بإهمال القوى المؤثرة في الأسباب الكونية، فالمعلول يقع عند علته لا بها، فيحدث الإحراق عند النار لا بما أودعه الله، عز وجل، فيها من قوى الإحراق الكونية التي لا تخرج عن إرادته الكونية العامة شأنها في ذلك شأن كل سبب مخلوق، فهو مؤثر بما أودع فيه من قوى، خاضع لمشيئة الرب، جل وعلا، الكونية، فلو شاء لأبطله، فضلا عن افتقاره إلى وجود السبب العاضد وانتفاء الضد المانع، فكل سبب يفتقر إلى سبب يسبقه في الوجود حتى نصل إلى السبب الذي لا سبب وراءه قطعا للتسلسل في المؤثرين، وهو كلمة الرب، جل وعلا، الكونية النافذة، فعقبها يقع المعلول على حد قوله تعالى: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فقول المتكلمين هو صورة من صور ردود الأفعال، إذ المعتزلة قد غلوا في إثبات القوى المؤثرة على حد الاستقلال، فجاء المتكلمون لينزعوا منها كل القوى التأثيرية ويردوا الأمر لمجرد العادة، وهو ما جرى عليه "هيوم" في تفسيره للعلية، فلم يخرج في ذلك، كما قرر "رينان"، عما قاله أمثال أبي حامد الغزالي رحمه الله.

وهو أثر سلبي آخر انتقل من العقل الإسلامي إلى العقل الأوروبي إذ هو على خلاف ما قرره المحققون من علماء الإسلام ممن تكلموا في العلل ومعلولاتها.

وتبعه نفي تعليل أفعال الله، عز وجل، بالحكمة، فهو يفعل بقدرة نافذة فلا غرض له الفعل إذ الغرض مئنة من الظلم أو الحاجة، وهذا، أيضا، من لوازم قياس فعل الرب، جل وعلا، على فعل العبد، فالعبد هو الذي يفعل لظلم أو حاجة، فلا يطلق وصف الغرض على فعل الرب، جل وعلا، ولا ينفى إذ هو من الألفاظ المجملة التي تحتمل صوابا وهو إثبات حكمة الرب، جل وعلا، فيقبل المعنى ويرد اللفظ لكونه حادثا لم تأت به النصوص، موهما يحتمل النقص، وهو الظلم أو الحاجة فتلك معان منتفية في حق الباري، عز وجل، بداهة. وإنما التزمها من شبه فعل الرب، جل وعلا، بفعل العبد، فلما اشمأزت نفسه من اللازم الباطل نفاه ونفى معه اللازم الصحيح، فنفى الظلم والحاجة، وذلك نفي صحيح، ونفى معهما الحكمة، وذلك نفي باطل، فلا بد من الاستفصال في موارد الإجمال لئلا تحمل الألفاظ المجملة معان باطلة، والخير، كل الخير، في هذا الباب الجليل، استعمال ألفاظ التنزيل، فهي نصوص في الكمال لا يتطرق إليها احتمال النقص، إذ النص لا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير