تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يحتمل إلا معناه فدلالته عليه دلالة قطع وجزم.

ومع ذلك يقع نفاة التعليل بالحكمة في الأفعال في التناقض إذ يجوزون التعليل بالحكمة في الأحكام الشرعية، مع نفيهم له في الأحكام الكونية، مع أن الحاكم بكليهما واحد، فمجري الأحكام الكونية هو منزل الأحكام الشرعية فكيف صح في الأذهان انتفاء التعليل في بعض دون بعض؟!، فذلك من التفريق بين المتماثلات وهو أمر لا يجري على قياس العقل الصريح كما سبقت الإشارة إلى ذلك في مواضع عدة.

وتبع ذلك نفي التحسين والتقبيح العقلي في مظهر آخر من مظاهر نفي التعليل، إذ الحسن والقبح مما تعلل به الأحكام إيجابا أو تحريما، فللعقل قدرة على إدراك الحسن من القبيح، ولكنه لا يستقل بالتشريع، ولا يلزم من تحسينه أو تقبيحه تكليف قبل ورود الشرع.

يقول ابن القيم رحمه الله:

"وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى لعدم جمعهما بين هذين الأمرين فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي وأحسنوا في رد ذلك عليهم واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن والقبح العقليين جملة وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا عليهم فكل طائفة استطالت على الأخرى بسبب إنكارها الصواب وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله ولا الظفر عليه أصلا فإنه موافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له مخالف في باطلها منكر له وليس مع النفاة قط دليل واحد صحيح على نفي الحسن والقبح العقليين وإن الأفعال المتضادة كلها في نفس الأمر سواء لا فرق بينها إلا بالأمر والنهي وكل أدلتهم على هذا باطلة .......... وليس مع المعتزلة دليل واحد صحيح قط يدل على إثبات العذاب على مجرد القبح العقلي قبل بعثة الرسل وأدلتهم على ذلك كلها باطلة ...... ومما يدل على ذلك أيضا أنه سبحانه يحتج على فساد مذهب من عبد غيره بالأدلة العقلية التي تقبلها الفطر والعقول ويجعل ما ركبه في العقول من حسن عبادة الخالق وحده وقبح عبادة غيره من أعظم الأدلة على ذلك وهذا في القرآن أكثر من أن يذكر ههنا ولولا أنه مستقر في العقول والفطر حسن عبادته وشكره وقبح عبادة غيره وترك شكره ما احتج عليهم بذلك أصلا وإنما كانت الحجة في مجرد الأمر وطريقة القرآن صريحة في هذا كقوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)، فذكر سبحانه أمرهم بعبادته وذكر اسم الرب مضافا إليهم لمقتضى عبوديتهم لربهم ومالكهم ثم ذكر ضروب إنعامه عليهم بإيجادهم وإيجاد من قبلهم وجعل الأرض فراشا لهم يمكنهم الاستقرار عليها والبناء والسكنى وجعل السماء بناء وسقفا فذكر أرض العالم وسقفه ثم ذكر إنزال مادة أقواتهم ولباسهم وثمارهم منبها بهذا على استقرار حسن عبادة من هذا شأنه وتشكره الفطر والعقول وقبح الإشراك به وعبادة غيره". اهـ

بتصرف من: "مفتاح دار السعادة"، (2/ 360، 361).

وذلك جار على ما اطرد في التنزيل من الاستدلال بالربوبية إيجادا وعناية على الألوهية فرضا وامتثالا.

فلازم ما تقدم نفي الحكمة في خلق الأشياء ورد الأمر إلى العادة لا الإرادة الكونية النافذة على مقتضى الحكمة الإلهية البالغة وذلك جار على ما قرره "هيوم" من رد الأمر برمته إلى العادة المطردة، فأنكر المعجزات، تبعا لذلك، فالمسألة محض اقتران بين العلة والمعلول، وهو يقترب، أيضا، من أصل الفلاسفة القائلين بقدم العالم، أصل: اقتران العلة بمعلولها، فقد يكون ذلك أيضا، من مظاهر العدوى الفكرية التي انتقلت إلى أكثر من جيل عقلي.

وهو جار على ما اعتنقه الفكر الأوروبي الحديث من انعدام الغاية، وهو إشكال، أي إشكال، أي يعيش الإنسان مع ما جبل عليه من طاقات عقلية وبدنية: بلا هدف!.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير