تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد سار على طريقة المعتزلة في مسألة الحسن والقبح الذاتي للأفعال: الفيلسوف الألماني "عمانوئيل كانت" الذي عني بتقرير القانون الأخلاقي كما حقق ذلك بعض الفضلاء المعاصرين في بحث جامعي، توصل فيه إلى تأثر كانت الشديد بالمعتزلة في هذه المسألة، وقولهم على ما فيه من غلو أقرب إلى المعقول من قول من نفى التحسين والتقبيح جملة وتفصيلا ومقالة أهل السنة في التوسط بين الطرفين هي المقالة الجامعة لأطراف الحق من كل المقالات.

ومن مظاهر ذلك التأثر أيضا:

أحد مسالك علماء المسلمين في جدال أهل الكتاب: وهو مسلك النقد لروايات الكتاب الأول، والنقد لمعانيه، فهو شعبة من علم الحديث الإسلامي الذي استوفى شطري: الرواية الإسنادية للألفاظ، والدراية العقلية للمعاني، فالمحققون من علماء اللاهوت فضلا عن الدراسات الحديثة في النقد التاريخي، تثبت تحريف الكتاب الأول على حد لا يمكن معه معرفة الحق في كثير من المواضع، وإن كان كثير من نصوص الكتابين لم يبدل، كما حكى ذلك المحققون من أهل العلم كابن تيمية، رحمه الله، في "الجواب الصحيح" وكان "سبينوزا"، من أوائل الأوروبيين طرقا لهذا الباب، فهو ممن حملوا هذه الروح النقدية عن علماء الإسلام، أصحاب الريادة في علوم الرواية، إذ كان يهوديا أندلسيا، يشاطر المسلمين العداء للكنيسة الكاثوليكية التي سامت المسلمين واليهود، بل أي مخالف لمقررات الكنيسة الكاثوليكية، سوء العذاب في أقبية محاكمها التفتيشية السوداء، فهرب من الأندلس إلى هولندا، ونقد اللاهوت نقدا ظهر فيه تأثره بابن حزم، رحمه الله، الذي ناظر قساوسة الأندلس في مناظرات معروفة.

وسفر "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" أصل جليل في نقد الكتاب الأول، فقد شمل نقده: الجانب اللفظي، فتناول دعوى اتحاد الأناجيل بالنقد، فهي دعوى يكذبها الواقع إذ النسخ المتداولة قد اختيرت من نسخ متعددة بينها من التباين ما يجزم بوقوع التبديل والتحريف فيها، ولا أصل يحتكم إليه عند التعارض، إذ هي مبتورة الأسانيد، بل لا أسانيد لها عند التحقيق، فضلا عن تناوله نص الأمانة وهو صلب الديانة بالنقد التاريخي فإنه لم يكن معروفا فضلا عن أن يكون مشتهرا زمن المسيح عليه السلام، فهو مما أحدث بعد رفعه بنحو ثلاثة قرون مع طروء التعديل عليه بعد ذلك بنحو خمسين سنة أو يزيد، وتناول أيضا الجانب المعنوي لها بالنقد فهي مقالة يكفي لبيان بطلانها حكايتها إذ لا يمكن للعقل تصورها وإنما غايته، كما تقدم مرارا، أن يفرضها، ويسلم بصحتها في سفسطائية تنكر اتصاف الرب، جل وعلا، بالكمال المطلق، فذلك من الواجب العقلي قبل ورود الشرائع، فكيف بعد ورودها بأوصاف الكمال المفصل للرب ذي الجلال والجمال عز وجل.

فضلا عن تناوله بالنقد الجانب المعنوي لنصوص كثيرة من الكتابين، فجل ما تمسك أهل الكتاب، لإثبات مقالة الصلب والتثليث وألوهية المسيح عليه السلام: ألفاظ مجملة، كوصف المسيح عليه السلام بالابن، أو تأيده بالروح القدس، فتلك معان يشترك فيها مع المسيح عليه السلام غيره من الأنبياء بل من دونهم من الصالحين، فعمومها يبطل الاحتجاج بها على خصوص دعوى ألوهية المسيح عليه السلام، وذلك جار على حد التسليم لهم بصحة هذه الألفاظ ابتداء، فهو أمر، كما تقدم، لا يشهد له نقل معتبر، وقد تناول بالنقد والتوجيه أيضا: البشارات بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الكتاب الأول، فبسط القول فيها، وقد اقتفى أثره ابن القيم، رحمه الله، فتناول نحو أربعين نصا منها بالعرض والتحليل في كتابه: "هداية الحيارى"، وهو صورة أخرى من صور النقد الإسلامي للمرويات، وهو أحد أيادي العقل المسلم المستنير بالوحي على العقل الأوروبي.

ثم سرد أمثلة للتناقض الظاهر بين نصوص الأناجيل على نحو يستحيل معه الجمع، فربما ورد اللفظ مثبتا ثم ورد بعد أسطر منفيا!، مع كون المحتج بها يدعي وحدة الأصل!، وما أسهل الدس في كتاب قد عني بذكر الأعلام وأسماء المدن والقرى بالتفصيل ثم غفل أو أجمل ذكر كليات في أمور الديانة لا تحصل النجاة إلا ببيانها مفصلة!، وكان نقده للألفاظ والمعاني فرعا عن طريقة شيخه ابن تيمية، رحمه الله، في "الجواب الصحيح".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير