تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض بيان اضطراب فلاسفة الملل من اليهود والنصارى والإسلام في مسألة المعاد وبعث الأجساد والأرواح:

"ثم زعموا أن ما جاءت به الرسل هو أمثال مضروبة لتفهم المعاد الروحاني وهؤلاء إذا حقق عليهم الأمر صرحوا بأن الرسل تكذب لمصلحة العالم وإذا حسنوا العبارة قالوا إنهم يخيلون الحقائق في أمثال خيالية وقالوا إن خاصة النبوة تخييل الحقائق للمخاطبين وإنه لا يمكن خطاب الجمهور إلا بهذا الطريق كما يزعم ذلك الفارابي وأمثاله". اهـ

"شرح الأصفهانية"، ص410.

وفي ذلك من الحط من قدر النبوات ما فيه، وهو أمر لازم لكل مقالة تخالف ما نزل به الوحي، فلا يمكن أن يعارض أحد من أهل الأرض خبر السماء بقياس أو ذوق إلا فرعا عن تحقيره، ولو بلسان الحال، لمقام النبوة، فيتقدم بين يدي النبوة، مع ورود النهي الصريح عن ذلك فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فالتقدم يعم كل الصور العلمية والحكمية والسياسية والتشريعية والأخلاقية، محل البحث، فالتقدم بين يدي النبوة لازمه الاستدراك على الرب، جل وعلا، إذ حسن المتقدم ما لم يستحسنه الشارع، عز وجل، واعتبر ما ألغاه أو سكت عنه مع قيام الحاجة إلى بيان اعتباره لو كان معتبرا في نفس الأمر.

قال في "أضواء البيان":

"والمعنى لا تتقدموا أمام الله ورسوله: فتقولوا في شيء بغير علم ولا إذن من الله، وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله وتحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله، لأنه لا حرام إلا ما حرمه الله ولا حلال إلا ما أحله الله، ولا دين إلا ما شرعه الله". اهـ

وقل مثل ذلك في الطعن في حملة ميراث النبوة من الأتباع من الصحب والآل ومن سار على طريقتهم من السلف خير طباق هذه الأمة، فإن التحقير من مقام النبوة يلزم منه التحقير من مقام الصحبة، بالطعن في العدالة أو الضبط أو الفهم، فهم بسطاء سذج لم يتوصلوا إلى ما توصلنا إليه من العلوم والتكنولوجيا، مع أن البحث شرعي يتعلق بالروح لا مادي يتعلق بالبدن من منجزات المدنية الحديثة التي تستوي كل العقول في إدراكها بدليل إتقان كثير من أبناء المسلمين لدقائقها مع التخلف المدني الظاهر في البلاد التي ولدوا فيها فلم يمنعهم ذلك من دراستها وإتقانها بل والتقدم فيها حتى تولى كثير منهم مناصب علمية رفيعة في أرقى المؤسسات البحثية في الغرب صاحب هذه النهضة المادية التي يفاخر بها الشرق فليس له حسنة سواها!، وذلك بخلاف الشرعيات التي اختص أبناء الشرق بها، وإن لم تكن حكرا عليهم، فالهدى أمر قد يسر لجميع المكلفين فرعا عن عموم خطاب التكليف لهم، ولكن النظر الآن: نظر جملي لا تفصيلي، فالشرق، أرض النبوات، في جملته أرسخ في أمر الديانة من الغرب، وإن وجد من أبناء الغرب من هو أرسخ ديانة من فئام من أهل الشرق، وذلك الحد الفاصل بين الشرعيات والطبيعيات يفصل النزاع في كل مسألة علمية أو عملية أو تشريعية أو سياسية أو أخلاقية، تنازع فيها الشرق المسلم والغرب النصراني، فلا بد من رد المسألة إلى أصولها فإن كانت شرعية فإن للشرق من القيم الدينية المحفوظة التي نقلها ورثة النبوة الذين يطعن فيهم الطاعنون، له منها ما يفاخر به الغرب، كما أن للغرب حضارته المادية التي يفاخر بها الشرق، مع كون الأولى خصيصة لا يشرك الغربُ الشرقَ فيها فهو ما أقام بنيان مدنيته إلا على أنقاض الدين الكنسي المحرف، بخلاف الثانية فإنها فضيلة تقبل الاشتراك، بدليل ما تقدم من نبوغ كثير من أبناء الشرق في ميادين البحث العلمي الحديث فالمسألة بالنسبة إليهم: قصور في أدوات البحث في جامعات ومعاهد الشرق المقفرة!، فإذا توفرت لهم في جامعات ومعاهد الغرب المزدهرة ظهرت ملكاتهم العقلية في أمر هو ميدان بحث العقل، فعمله في الطبيعيات: الاستقراء والنظر، بخلاف عمله في الشرعيات فإنه يقتصر على: التسليم ثم التأييد للوحي بالبرهان العقلي تأييد التابع الخاضع لمتبوعه لا المتقدم بين يديه المنازع له سلطانه على القلوب بما قرره من عقود الإيمان بالغيب، حيث يعجز العقل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير