تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويقف حائرا فلا يهتدي إلا إذا استنار بنور الوحي، فصار زكيا بالشرع فلا يكفي أن يكون ذكيا بالطبع لتحصل له النجاة.

فإذا حرر محل النزاع على هذا النحو علم الشرق المسلم ما يفتقر إليه من مدنية الغرب فاستمدها برسم: "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا" على كلام في إسناده إذ حكم عليه الترمذي رحمه الله بالغرابة المطلقة وذلك عنده رسم الضعيف، وعلم ما قد استغنى بالوحي عنه فرده برسم: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

وعودة إلى بعض تقريرات ابن تيمية، رحمه الله، لطريقة الفلاسفة في التعاطي مع النبوات، ومن جملة مسائلها مسألة الأخلاق محل البحث، فيقول في معرض بيان طريقة الفارابي وابن سينا:

"وَأَمْثَلُهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هَذِهِ تَخَيُّلَاتٌ وَأَمْثِلَةٌ مَضْرُوبَةٌ لِتَقْرِيبِ الْحَقَائِقِ إلَى قُلُوبِ الْعَامَّةِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْفَارَابِيِّ وَابْنِ سِينَا؛ لَكِنْ ابْنُ سِينَا أَقْرَبُ إلَى الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَهَرَتْهُ بَرَاهِينُهَا وَأَنْوَارُهَا وَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ - حَتَّى قَالَ ابْنُ سِينَا: اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطْرُقْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَأَوَّلَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى عَادَةِ إخْوَانِهِ فِي تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَيُحَرِّفُونَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ". اهـ

فلا تخلو من وصف السياسة الأرضية، وهذا هضم لحق الوحي، بل إنكار صريح له، فالشرائع الإلهية تنزل على هذا القول منزلة: السياسات الأرضية، وفي ذلك من الجور ما فيه.

ويقترب مسكويه في مسلكه في الجمع بين الشريعة وحكمة الأوائل يقترب من هذا المسلك الذي يجعل العمل طريقا إلى مطالعة الحكمة فلا تعارض بينهما عند الفلاسفة كما اطرد في مقالتهم، يقترب من هذا المسلك إذ يقول في "تهذيب الأخلاق":

"إن السعيد هو من اتفق له في صباه أن يأنس بالشريعة ويستسلم لها ويتعود جميع ما تأمره به حتى إذا بلغ المبلغ الذي يمكنه به أن يعرف الأسباب والعلل طال الحكمة فوجدها موافقة لما تقدمت عادته به فاستحكم رأيه وقويت بصيرته ونفذت عزيمته". اهـ

وليس ذلك حاصلا، إذ فلسفة اليونان تخالف مقالة أهل الإيمان لاختلاف مصادر التلقي، فالأولى تستند إلى العقل في تقرير كليات مجردة، والثانية تستند إلى وحي معصوم عني بتقرير الحقائق الإلهية والشرعية على حد يحصل به تمام العلم، فالحكمة لا تورث اليقين الذي تورثه النبوات، لا سيما في الإلهيات، فإن الفلاسفة قد ضلوا فيها بنفي الصفات وإثبات وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق كما سبقت الإشارة إلى ذلك بخلاف النبوات التي شفت العلة في هذا الباب الجليل الذي لا يتلقى إلا من قبل النبوات المعصومة.

وهو أمر قد سرى إلى مناهج التزكية والأخلاق عند أهل الطريق، فصار الزهد والفقر الجسدي سبيلا إلى تحقيق الكمال الروحي، وأعلى مراتبه النبوة، فمنهم من صرح بتفضيل الولي على النبي كابن عربي الطائي، مضاهاة لقول غلاة الفلاسفة الذين فضلوا الفيلسوف على النبي، وبعضهم زعم أن الفلاسفة هم أنبياء الخاصة، "فكما أن الأنبياء يتقبلون الوحي فيبلغونه للشعب، وكذلك الفلاسفة وهم أنبياء الطبقة العالمة"، وذلك أصل تفرع عنه تقسيم أهل الطريق للمكلفين إلى عوام يلزمهم امتثال الشريعة الظاهرة، وخواص قد بلغوا مرتبة اليقين، أو: الحقيقة الباطنة، فلا تلزمهم الشرائع الظاهرة، فيسعهم الخروج عن شريعة الإسلام، وذلك ناقض صريح من نواقض الإسلام، فالعمل عند الفلاسفة: نافلة في حق الخواص الذين أدركوا من حكمة الأوائل ما كملت به نفوسهم فاستغنت عن المكملات الشرعية من أسباب التزكية التي جاءت بها النبوات.

يقول ابن تيمية رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير