تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حالة الفصام الأخلاقي التي تعيشها المجتمعات التي أقامت بنيانها على قيم مادية نفعية.

وقد ذكر أحد الفضلاء المعاصرين ممن أكمل الدراسة في ألمانيا طرفا من حال إحدى الأسر الألمانية وكان مستأجرا لإحدى الشقق التي تملكها، فهي أسرة تؤدي واجباتها الدنيوية بكفاءة عالية على طريقة: الماكينات الألمانية، فالأبناء قد شيدوا بأنفسهم منزلا كاملا بشتى التجهيزات، فتلك كفاءة قل أن تتكرر، ولكن الهدف من إنشائه كان: توفير محل إقامة لأمهم مع صديقها، وإن شئت الدقة فقل مع عشيقها!، فتلك أيضا: دياثة قل أن تتكرر!، فلا فرقان بين أنماط السلوك الشخصي فكلها دائرة في فلك الحاجة البيولوجية دون نظر إلى طريقة شرعية نبوية إذ أعلام النبوة في تلك الأصقاع خافية، بل أعلام الفطرة السوية في كثير من الأحيان خافية فاستوى الأكل والشرب والنكاح ...... إلخ، كما يقول بعض الفضلاء المعاصرين، فلا أحد ينكر على أحد أنه يأكل أو يشرب فلتعم القاعدة إذن كل سلوك بشري، ولو كان مما يستحى من ذكره صراحة!.

ويعلق ذلك الفاضل قائلا ما معناه: وهذا هو الغرب، وتلك حضارته فأنت مضطر للتعامل معه على هذا الوصف: فدرجة علمية وعملية رفيعة، ودركة أخلاقية وضيعة، فمراد ذلك الفاضل، وذلك الظن به لكمال حشمته، أن يعرف الإنسان ما يقبل وما يرد، فيقبل النافع، على رسم ما تقدم من نشد ضالة الحكمة، ويرد الضار ففي الوحي المنزل عنه غنية.

فالناظر في حال الجماعة الأوروبية باعتبار إنتاجها الكلي قد يصاب بالصدمة الحضارية للبون الشاسع بين الشرق المسلم وأوروبا في أمور الحياة المدنية، والناظر في حال أفرادها يرى تناقضا رهيبا بين الصورة الكلية المجموعة والصور الجزئية المكونة لها، فإن اولئك الأفراد هم أجزاء الجماعة التي ينتمون إليها، فكيف يكون الكلي صالحا مع أن كثيرا من أجزائه فاسد؟!، والجواب: أن ذلك هو الأثر الأبرز للعلمانية المعاصرة التي نجحت في عزل الدين والقيم عن الواقع، فصار الدين، إن كان له بقية أثر في نفوس الأفراد، تصورا روحانيا لا علاقة له بالحياة المادية، فلكل ناموسه الخاص: فناموس الروح مجموعة من القيم والتصورات المجردة لا أثر لها خارج ذهن صاحبها، وناموس الجسد: مجموعة أخرى من القيم والتصورات المادية التي تصل في أحيان كثيرة إلى حد التصورات الحيوانية، فأخلاق الوحوش التي تسعى إلى تحقيق مآربها الجسدية من مطعوم أو منكوح هي التي تغلب على أخلاق الأفراد في أي جماعة لم تنل حظا من النبوات.

وتكون الأخلاق التي هي باتفاق العقلاء: معايير ثابتة قد أجمعت الشرائع والعقول على حسنها، تكون نسبية تدور مع المصلحة وجودا أو عدما، فليس الصدق حسنا لذاته بل هو حسن لما يجلبه من منفعة مادية، كاكتساب العملاء وعقد الصفقات، فلا تصور لثواب أو عقاب فرعا عن غياب النبوات، فإذا صارت المنفعة المادية في الكذب صار الكذب حسنا والصدق قبيحا لموافقة الأول في هذه الحال معيار المنفعة، ومخالفة الثاني له، فلا ثبات لشيء في عالم المتغيرات، فكل الحقائق نسبية تخضع لمقاييس العقول والأهواء لا إلى مقاييس الرسل والأنبياء عليهم السلام. وذلك جوهر فلسفة ماركس التي أسس بنيانها على المنفعة الاقتصادية، وفلسفة فرويد التي أسس بنيانها على المنفعة الجسدية، وفلسفة دوركاييم التي أسس بنيانها على المنفعة الاجتماعية، فالأفراد يصوغون العقد الاجتماعي الذي يلبي احتياجاتهم الآنية دون نظر إلى وحي أو نبوة، فالعقول تستقل بإدراك المصلحة على وجه التحديد، كما قرر الفلاسفة الأوائل الذين زعموا الحكمة وهم السفهاء، والحكيم لا يفتقر إلى غيره لتحصيل ما ينفعه، فلا حاجة له إلى نبي، فالنبي يأتي لتكميل أو إصلاح القوى العلمية والعملية للمكلفين، وهو قد أكملها بمفرده، وذلك عين ما فعله السالك الذي بلغ مرتبة اليقين فلم يعد يحتاج النبي في شيء إذ العلم قد فاض عليه من معدنه، والعمل قد استغنى عنه بما أدركه من الحقائق الباطنة التي حجب عنها أهل الظاهر!.

والأخلاق عند أصحاب المناهج الوضعية تتغير بتغير آلة الإنتاج، فالمجتمع الزراعي له أخلاقه التي يغلب عليها التستر لملاءمته نمط الحياة الريفية الهادئة، والمجتمع الصناعي له أخلاقه التي يغلب عليها التهتك لملاءمته نمط الحياة المدنية الصاخبة ولكل مقام مقال!.

على حد قول إنجلز:

"إن الأخلاق التي نؤمن بها هي كل عمل يؤدى إلى انتصار مبادئنا مهما كان هذا العمل منافيا للأخلاق المعمول بها".

وقول لينين:

"يجب على المناضل الشيوعي الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل. فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية". اهـ

والشاهد أن الفرد في هذه المجتمعات ليس سوى آلة إنتاج ينظر فيها إلى الكفاءة المادية، في مقابل غلو الفلسفات التجريدية في اعتبار الجانب الروحي وإهمال الجانب المادي.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير