تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

باللذة فتصير مباشرته لأسبابها مباشرة العادة الرتيبة بلا أي انفعال وجداني آدمي، بل الغالب على مسلكه في مباشرتها مسلك البهائم إذ تسعى إلى تحصيل مراداتها الآنية دون نظر إلى عواقبها، فلو وضع لها السم في الطعام وهي تبصر ذلك ما أحجمت عن تناوله إذ لا عقل لها يدرك ضرره، فقواها الحسية مكتملة، وقواها العقلية ناقصة أو معدومة فلها قوة الإحساس بالمباشرة وقوة التخييل بالحفظ لما تراه من الصور فلو قدم لها الطعام مرة بعد مرة فإنها تحتفظ بصورته في ذاكرتها فإذا رأته ثانية قاست المحسوس أمامها على المعقول في ذهنها قياس تمثيل فأقبلت عليه وإن وضع لها فيه سبب هلاكها إذ ليس لها كما تقدم: قوة العقل وقوة الفكر الأعلى التي بها توزن الأمور وفق معايير دقيقة، فتلك قوة إنسانية يفرط فيها كثير من البشر فينزل إلى درك البهائم بمشاركتها قوى الحس والتخييل فإذا رأى الشهوة ولو محرمة أقبل عليها إقبال الحيوان الأعجمي، إذ قد فارق الآدميين بفقده قوتي العقل والفكر، فضلا عما يناله بعد ذلك من ألم مفارقتها والخوف على فواتها وتضاؤل لذتها بل انعدامها في مراحل تالية، ومرجع ذلك كله إلى فساد التصور الأول الذي أفسد قوة العقل الآمرة فتبع ذلك فساد قوة الغرائز المأمورة، فذلك تأويل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"، ولا تتلقى التصورات الصحيحة إلا من مشكاة النبوات، فإن الرسل عليهم السلام هم أصحاب العلوم الصحيحة في الإلهيات العلمية والحكميات العملية، فتستقيم العقول على منهاج علومهم، وتستقيم الغرائز على منهاج أعمالهم، فتتكامل قوى المكلف بصحة التصور العقلي والحكم الغريزي، فلا حكم إلا لله عليه، في كل علم أو إرادة، فذلك من تأويل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فلا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم من المنازعات العامة التي يحكم فيها أصحاب الولايات العامة بشريعة الجماعة التي تقضي في الدماء والفروج والأموال بحكم الشرع، أو هكذا يجب أن تكون!، ولا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم وبين أنفسهم في المنازعات الخاصة في التصورات والإرادات، فلا يكون علم إلا من قبلك، ولا يكون عمل إلا على وفق سنتك، فالشرع عام تصلح به الجماعات وخاص تصلح به الأفراد، وذلك، كما تقدم، مما امتازت به الرسالة الخاتمة، فليس نظرها مقصورا على مصلحة الجماعة كما يغلب على حال المجتمعات المادية شيوعية كانت أو رأسمالية، أو مصلحة الأفراد في أنفسهم كما يغلب على مناهج الرهبان ومن سار على طرائقهم الزهدية من أهل الرياضة، فإن أولئك ما أرادوا إلا تهذيب أنفسهم دون التفات إلى من قد ولوا عليه: ولاية عامة إن كانوا من أصحاب السلطان، أو خاصة إن كانوا آباء أو أولياء أو أوصياء ....... إلخ، أو حتى أخلاء لهم من ولاية النصح على خلانهم، ما يخرجهم من دائرة: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)، فاعتزلوا الحياة العامة، فضلا عما طرأ على مناهجهم من الفساد ببعدهم عن طرائق الأنبياء عليهم السلام، فاجتمع لهم فساد المنهج العام بتغليب حق الفرد على حق الجماعة، والمنهج الخاص بفساد طريقة التهذيب والإصلاح، كما اجتمع للأولين فساد المنهج العام بتغليب حق الجماعة على الفرد، والمنهج الخاص بالتحرر من قيد الشرع الحاكم إلى فضاء الهوى الجامح، فصار تحصيل المنفعة المادية ولو بطرائق غير مشروعة هو هدف الجماعة الأسمى، فليس المهم أن نكون أصحاب خلق أو ديانة، وإنما المهم أن نكون أصحاب ثروة ورياسة. والشرع المنزل، كما تقدم، هو الذي جمع بين القبيلين: قبيل العلم، وقبيل العمل، فلم يقع فيه من التعارض ما وقع في بقية المناهج.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير