تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومجاهدة النفس باب دقيق يغفل عنه كثير من المكلفين فتستولي نفسه على مقاليد حكمه، فهو لها خاضع وبأمرها فاعل، فمن رام تهذيبها فعليه بالمنهاج الشرعي المقتصد، فإن النفس دابة حرون، فلا تسلم القياد برسم القهر، بل لا بد لها من سياسة تجعلها تحت سلطان صاحبها، فلا يغفل عنها فتورده المهالك، ولا يشتد معها فتنفر منه أو تهلك فلا تبلغه مأمنه.

وعند البيهقي، كما ذكر صاحب "الدر المنثور" رحمه الله، عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى، فاعمل عمل امرىء يظن أن لن يموت أبداً، واحذر حذراً تخشى أن تموت غداً»

وعند ابن بطة، رحمه الله، في "الإبانة" من طريق:

جعفر بن برقان، قال: بلغنا، عن وهب بن منبه، أنه كان يقول: «الرجاء قائد، والخوف سائق، والنفس حرون إن فتر قائدها صدت عن الطريق، فلم تستقم لسائقها، وإن فتر سائقها لم تتبع قائدها، فإذا اجتمعا استقامت طوعا وكرها»

ويبين طرفا من ذلك الغلو قولهم عن الإسلام بأنه: ذبح النفس بسيوف المخالفة. فليس جهادا تهذب فيه شهوات النفس لتستقيم على الطريقة المثلى وسطية شرعية بين إفراط اليهودية وتفريط النصرانية، فذبح النفوس جار مجرى ذبح رهبان النصارى أنفسهم برسم المثرائية، فلا خلاص إلا بتقديم القرابين للآلهة بواسطة الكهان، والقربان أحد أركان العقيدة النصرانية بعد وقوع التبديل على يد بولس، فإن دنس الخطيئة الأولى الذي لازم آدم وبنيه، فلم تنفعه توبة، على وزان:

قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً ******* فما اعتذارك عن قول إذا قيلا

فهي توبة غير مقبولة!، ذلك الدنس قد صير البشرية في حاجة إلى قربان بشري عام كان هو بزعم عباد الصلبان: الرب، جل وعلا، أو ابنه، أو كلمته التي انفصلت عن ذاته لتتجسد في أقنوم الكلمة أو العلم، وهو جوهر المسيح عليه السلام، بزعم قائله، فيصلب الأقنوم أيا كان كنهه، فداء للنوع الإنساني إذ لم يقدر الرب، جل وعلا، على غفران الخطيئة فلزم تقديم قربان مقدس لم ينله دنس الخطيئة، وذلك هو الرب، جل وعلا، أو ابنه ...... إلخ، فلم ينج من أخبث أمة: أمة يهود الذين استعدوا عليه بعض عباده! من أمة الرومان فتمكنوا من قتله، فجاء الصلب تطهيرا لآدم والذرية من دنس الخطيئة، ولم ينزل الرب إلا متجسدا في ناسوت بشري إمعانا في خداع إبليس ليقيم عليه الحجة إذا ما جاء بعد الصلب ليأسر الناسوت في سجنه كسائر النواسيت التي طالها دنس الخطيئة بما فيها نواسيت الأنبياء عليهم السلام، فيقول له عندئذ: ليس الناسوت كباقي النواسيت بل هو ناسوت مطهر لم ينله أثر الخطيئة، فهو القربان الصحيح السالم من المعارضة الذي تقام به عليك الحجة لتطلق سراح من سجنته من الذرية وتترك الباقي فلا تتعرض لهم!. وهي مقالة حملت أحد العلمانيين الذين أفتت جبهة علماء الأزهر بردته، حملته على أن يصف إله النصارى بأنه خروف!، فصار المسيح عليه السلام معادلا للقربان الذي يضحي به المسلمون في أعيادهم، بل صار الرب، تبارك وتعالى، هو ذلك القربان، فما الناسوت إلا صورة اللاهوت الأرضية. فذلك القربان البشري العام.

وقد توسع ابن تيمية، رحمه الله، في "الجواب الصحيح" في نقض هذه المقالة التي أقام عليها النصارى بنيان دينهم، مع بطلانها بداهة، فمجرد حكايتها تغني عن إبطالها، ولكنه، رحمه الله، تنزل معهم، حتى يخيل للناظر في كلامه أنه يناقش مسألة علمية الخلاف فيها قوي لدقة وخفاء محل النزاع فيلزم لبيانه بسط في العبارة!.

وأما القربان البشري الخاص فهو ذبح النفس بسيف الرياضات التي أخرجت جيلا من الرهبان تفنن في إهانة الجسد وتعذيبه برسم المجاهدة محوا لآثار الخطيئة، وكأن صلب المسيح عليه السلام لم يكن كافيا أو كان تطهيرا جزئيا!. وكان هذا الانصراف إلى قهر النفس وإذلالها ذريعة إلى تعطيل الشرع الحاكم، بل إلى تعطيل الحياة التي أقامها الرب، جل وعلا، على سنن كونية محكمة، فلا يكون صلاح إلا بمباشرتها، فإذا هجر الناس البيوت ليسكنوا الكهوف، فسد نظام الكون بتعطيل الإنسان عن وظيفة الخلافة، فيصبح الإنسان الكامل هو الإنسان العاطل عن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير