تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فرسمهم التفريط كما أن رسم الخوارج الإفراط، ورسمهم الأمن إلى حد الغرور كما أن رسم الخوارج الخوف إلى حد اليأس والقنوط.

والشاهد مما تقدم أن الأخلاق تلعب دورا رئيسا في تبلور المقالات العلمية فمرد كل المقالات الحادثة إلى إفراط أو تفريط في خلق نفساني، فمن غلب على خلقه الشدة فهو إلى مقالات التشديد إلى حد الإفراط والغلو أقرب، ومن غلب على خلقه اللين فهو إلى مقالات التسهيل إلى حد التفريط والجفاء أقرب، وللشيطان في كل عبادة أو خلق طرفان من التشديد والتسهيل لا يبالي في أيهما وقع المكلف، فهمه إخراجه عن حد الاعتدال إلى إفراط بزيادة أو تفريط بنقصان، فليست المقالات العلمية التي تحكى في كتب المقالات: مجرد أقوال لا حقائق نفسانية وراءها بل هي عند التحقيق ترجمة فعلية لما يعتمل في النفس البشرية الحساسة المتحركة من تصورات علمية وإرادات عملية لقوى القلب الفاعلة فيظهر أثر ذلك، كما تقدم، على الألسن والجوارح.

فلا يتصور الانفكاك بين الباطن بما يعتمل فيه من التصورات والظاهر بما يظهر عليه من الأحكام.

ويقول، رحمه الله، في معرض بيان أقسام الفناء:

"إنه ثلاثة أقسام قسم كامل للسابقين وقسم ناقص لأصحاب اليمين وقسم ثالث للظالمين الفاسقين والكافرين.

فالأول الفناء عن عبادة ما سوى الله والاستعانة به: بحيث لا يعبد الا الله ولا يستعين إلا بالله وهذا هو دين الإسلام.

والثاني الفناء عن شهود ما سوى الله بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده: وهذا لمن لم يقدر على الجمع بين شهود الحقائق وعبادة الخالق بل ما شهده عنده ومعبوده واحد فمشهوده واحد. وهذا يعتري كثيرا كالعيسوية من هذه الأمة، (وهم أهل الطريق)، الذين لهم وصف العبادة دون الشهادة فلهم قوة في العبادة والإنابة والمحبة يجتذبهم ذلك إلى معبودهم ومقصودهم ومحبوبهم وليس لهم قوة مع ذاك على شهود سائر ما يقوم به من الكائنات وما يستحقه من الأسماء والصفات فهؤلاء إذا لم يتركوا واجبا لم يضرهم وإن تركوا مستحبا مشتغلين عنه بما هو أفضل منه لم ينقلوا عن مقامهم وإن اشتغلوا عما تركوه من المستحب بما ليس مثله فانتقالهم إلى ذلك الأفضل أفضل إذا أمكن وإلا ففعل المقدور عليه من الصالحات خير من الاهتمام بما يعجز عنه ويصد عن غيره وإن تركوا واجبا أو فعلوا محرما مع إمكان العلم والقدرة فهم مؤاخذون على ذلك وإن كان مع سقوط التمييز لسبب يعذرون به مثل زوال عقل بسبب غير محظور أو سكر بسبب غير محظور أو عجز لا تفريط فيه فلا ذم عليهم وإن كان مع التكليف فسبب الذم قائم ثم لهم حكم الله فيهم كما لسائر المؤمنين من كون الذنب صغيرا أو كبيرا مقرونا بحسنات ماحية أو غير ذلك من أحكام السيئات ما لم يخرجوا إلى القسم الثالث وهو فناء الكافرين وهو جعل وجود الأشياء هو عين وجود الحق أو وجود نفسه عين وجوده كما بيناه من مذاهب أهل الحلول والاتحاد ......... فإن هذا كفر وصاحبه كافر بعد قيام الحجة عليه وإن كان جاهلا أو متأولا لم تقم عليه الحجة كالذي قال: إذا أنا مت فاحرقوني ثم ذروني في اليم فهذا أمره إلى الله تعالى". اهـ

"الاستقامة"، ص413، 414.

وهذا من عدل أهل السنة ورحمتهم بالمخالف فيتوقفون في الحكم عليه وإن كانت مقالته عين الزندقة حتى تقام عليه الحجة الرسالية فتزول الشبهة ويحصل البيان الرافع لأي إجمال.

ولأهل الطريق كلام نافع في المقامات العلية كـ: الزهد والتوكل والخوف والرجاء والصبر والشكر، وإن وقع في تفاصيلها نوع تجوز، فالزهد قد يغلو صاحبه فيخرج عن حد الاعتدال، والتوكل قد يصير تواكلا، فيصير صاحبه شحاذا يتسول، وهو يدعي الولاية بل ربما ادعى ما فوقها مما لا يجوز ادعاؤه في حق البشر!.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "منهاج السنة":

"فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح يدعى أحدهم الإلهية وما هو أعظم من النبوة ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته ثم آخرته شحاذ يطلب ما يقيته أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته فيفتقر إلى لقمة ويخاف من كلمة فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعز". اهـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير