والخوف إن خرج عن حد الاعتدال أورث صاحبه من الصعق والغشيان ما يدل على ضعف المحل عن قبول آثار الوحي فهو قول ثقيل لا تطيقه إلا القلوب الراسخة، وإن كان معذورا في ذلك إذ لا قوة للمحل على احتمال الوارد الإيماني، ولكن ذلك لا يعتبر حالا كاملة فليس صاحبه أكمل حالا أو أرفع درجة من الصدر الأول، رضي الله عنهم، الذين كانوا أفضل طباق الأمة حالا باطنة وصورة ظاهرة.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"فهكذا زوال العقل بالسكر هو من نوع زواله بالإغماء والجنون ونحو ذلك فهذا لا يؤمر به المؤمنون بحال ولا يحمد منهم وإن حصل لهم مع ذلك ذوق إيماني ووجد عرفاني مما هو محمود ومأمور به فذاك هو المحمود لا عدم العقل والتمييز.
ولهذا لم يكن في الصحابة من حاله السكر لا عند سماع القرآن ولا عند غيره ولا تكلم الأولون بالسكر وإنما تكلم به طائفة من متأخري الصوفية صار يحصل لهم نوع سكر بما في قلوبهم من الذوق والوجد مع سقوط التمييز والعقل ويفرقون بين الصحو والسكر.
والسكر لهؤلاء هو من جنس الإغماء والغشي الحاصل عند السماع الذي حدث في بعض التابعين من البصريين وغيرهم فإن السكر والاغماء والغشي كلها زوال العقل والتمييز لكن تفترق أسبابها وأذواقها فقد يكون أحد الذوقين والوجدين عن محبة ولذة وقد يكون عن خشية وألم وقد يكون عن عجز عن الإداراك لفرط العظمة التي تجلت للإنسان كما وقع لموسى عليه السلام فهذه الأمور يجب أن يعرف أنها ليست كمالا مطلقا كالفناء لكن يحمد ما فيها من الأمور المحمودة الإيمانية من ذوق أو وجد إيماني مشروع أو محبة إيمانية أو خشية إيمانية ولا يحمد منها ما زاد على المستحب وما شغل عن ما هو أحب منه
ويذم منها ما تضمن ترك واجب من علم أو عمل أو فعل محرم لكن إذا كان المذموم بغير تفريط من العبد ولا عن عدوان منه لم يذم منه". اهـ
"الاستقامة"، ص425.
وهذا، أيضا، من صور عدل أهل السنة ورحمتهم في الحكم على أصحاب الأحوال الناقصة، فمن بذل الوسع واستفرغ الجهد ولم يفرط في طلب الحق بل كان عليه حريصا ومن الهوى مجردا فهو معذور إذ لم يعلم الحكم فلم يبلغه ليلزمه العمل به فيكون مذموما بتركه. فهو قد عزم أمره على امتثاله فور وجدانه بدليل صحيح وتفسير صريح لا لبس فيه ولا إجمال، فهذان ركنا الاستدلال: الدليل الصحيح والتفسير الصريح.
والرجاء إن زاد عن حده صار إرجاء يسيء صاحبه الأدب مع الرب، جل وعلا، بحجة إحسان الظن!.
يقول ابن أبي العز رحمه الله:
"يجب أن يكون العبد خائفا راجيا، فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنبا ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
أما إذا كان الرجل متماديا في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.
قال: أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: {مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} الآية. وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} {عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} الآية. فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنا، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطا ويأسا. وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه.
وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد، وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد ............. وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، (أي: خارجي)، وروي: ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد". اهـ
وهكذا كل خلق إن خرج صاحبه عن حد الاعتدال إفراطا بالغلو أو تفريطا بالجفاء، فإنه لا محالة مخالف لطريقة الأنبياء عليهم السلام.
والشاهد أن ذلك جار على حد ما تقرر من التشابه بين أصحاب المقالات وإن اختلفت الملل، فالنفس البشرية واحدة في أصلها، فتشترك إجمالا في حواسها الباطنة والظاهرة، وإن وقع الاختلاف شدة أو ضعفا في خواصها، فتسلسل إسناد المقالات من الأمم السابقة إلى الأمم اللاحقة أمر ظاهر لمن تأمل تاريخ المقالات الإنسانية، فمقالة النصارى، كما تقدم في مواضع سابقة، قد سرت من الأمم القديمة التي غلت في المعاني التجريدية من زهد وفداء ......... إلخ، إلى رهبان النصارى إلى رهبان الإسلاميين الذين ذبحوا النفوس بسيوف الزهد!، فعطلوا أمر الدنيا انتصارا للدين، فأداهم ذلك إلى التعطيل الكامل لسنن الشرع بحجة شهود أسباب الكون، وهو ما أداهم في مراحل تالية إلى شهود الذات الإلهية على رسم الاتحاد بالكائنات الأرضية، فكان ما كان من فحش المقالة وفساد الإرادة والعمل.
فالغرض من عرض مقالة النصارى هو الإشارة إلى المضمون الفلسفي التجريدي الذي أثر ابتداء في الباطن، فظهر أثره في الظاهر على حد ما تقدم من الزهديات الغالية المنحرفة المنافية للنبوات بل لسنن الفطرة الإنسانية، فذلك من أصول فساد فلسفة الأخلاق عند أصحاب المناهج الغالية في تربية النفس بقطع مادة الحياة عنها!.
والله أعلى وأعلم.
¥