تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لاستبصاره بسر القدر كما أثر عن ابن سينا الطبيب الفيلسوف المعروف، وذلك أثر متقدم من آثار مقالة الجبر التي سوى أصحابها، وإن لم يبلغوا هذه الدرجة من الانحراف العقدي والفكري، سووا بين المشيئة والمحبة فصار تقدير الشيء ولو كونا مئنة من الرضا به ومحبته شرعا.

وأما الغلو في مشاركة الآخرين آلامهم على نحو قول من شوهد وقد خفف ثيابه في يوم شديد البرودة فسئل عن ذلك فقال: "ذكرت الفقراء وما هم فيه، ولم يكن لي ما أواسيهم، فأردت أن أواسيهم بنفسي".

فذلك مسلك مثالي يفتقر إلى كثير من التحقيق لا سيما من جهة الترجيح بين المصالح والمفاسد المعتبرة فإن فعله هذا لن يجدي شيئا إلا زيادة عدد المتضررين من البرد واحدا، فضلا عما سيدخل عليه من الفساد في نفسه من تشدد قد يفضي إلى السآمة، أو المرض فيقعد عن الطاعة، فكان الأولى به أن يتقي البرد ليحفظ آلة التكليف فلا تنقطع عن الطاعة، وأن يدعو لإخوانه، ويمد لهم يد العون إن استطاع ذلك، وألا يكلف نفسه فوق طاقتها.

ولا يصح الاحتجاج في هذا المقام بما كان عليه الأئمة في عصور الازدهار من أخذ النفس بالشدة، كما تواتر من حال عمر وعلي، رضي الله عنهما، فإن ذلك إنما يحسن ممن كان متوليا أمر الجماعة ليجد ما يجدوه من ألم الفقر والجوع لا سيما في النوازل، فيحسن في حقه ما لا يحسن في حق آحاد الرعية، ولكل مقام مقال.

وقد أدى ذلك الغلو في الجانب السلوكي في مقابل الجفاء في الجانب العلمي إلى استخفاف كثير من أهل الطريق بطلب العلم، حتى صار ذلك علامة نقص عندهم، كما ذكر ذلك الذهبي، رحمه الله، في "تاريخ الإسلام" في ترجمة أحمد بن الحسين بن محمد بن الحسين. أبو سعيد الكندري، الإسفرائيني:

"حكي أنه كان يصحب الصوفية، ويتكتم من كتابة الحديث قال: فسقطت مني دواةٌ، فقال صوفي: استر عورتك! ". اهـ

فصار طلب الحديث: عورة يجب سترها!

فهم أرباب أحوال وأعمال لا أقوال!، وكل حال أو عمل لا بد أن يسبقه قول يتصوره القلب فتتولد عنه إرادة، فدعوى عدم الحاجة إلى العلم، لا سيما علم المتقدمين من أهل القرون الفاضلة، مكابرة ظاهرة، وقد طلب العلم من هو أشرف منهم حالا وعملا، فلم يكن ذلك منقصة لقدره، بل ذلك مما يزيد السالك إلى ربه، عز وجل، بصيرة فلا ينخدع بما يعرض له أثناء الطريق من المزالق، لا سيما مزالق الخوارق التي ضل فيها من ضل من أرباب الأحوال بلا علم، كما جرى للفقيه أبي ميسرة المالكي، (أحمد بن نزار القيرواني المتوفى سنة 338 هـ)، رحمه الله، كما حكى عنه القاضي عياض، رحمه الله، أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة فإذا المحراب قد انشق، وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر وقال له: "تملأ من وجهي يا أبا ميسرة فأنا ربك الأعلى". فبصق فيه وقال له: "اذهب يا ملعون، فعليك لعنة الله".

"ترتيب المدارك" (3/ 359)، وذكر ذلك الذهبي، رحمه الله، في "سير أعلام النبلاء"، (15/ 395)، في ترجمة أبي ميسرة رحمه الله.

فالدعوى في نفسها باطلة لمعارضتها نصا صحيحا صريحا هو حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، مرفوعا في صفة الدجال وفيه: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم عز وجل حتى تموتوا".

فالعالم يرد تلك الخارقة الشيطانية بذلك الوحي الرحماني، والجاهل يقبلها ويظنها كرامة.

والشيخ عبد القادر الجيلاني، رحمه الله، في حكايته المشهورة مع إبليس، وقد أشار إليها ابن تيمية، رحمه الله، في مواضع من كتبه منها قوله في "مجموع الفتاوى":

"وَهَذَا كَمَا إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعِبَادِ يَرَى الْكَعْبَةَ تَطُوفُ بِهِ وَيَرَى عَرْشًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ صُورَةٌ عَظِيمَةٌ وَيَرَى أَشْخَاصًا تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ فَيَظُنُّهَا الْمَلَائِكَةَ وَيَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ هِيَ اللَّهُ - تَعَالَى وَتَقَدَّسَ - وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا. وَقَدْ جَرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ كَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي حِكَايَتِهِ الْمَشْهُورَةِ حَيْثُ قَالَ: كُنْت مَرَّةً فِي الْعِبَادَةِ فَرَأَيْت عَرْشًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ نُورٌ فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ الْقَادِرِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير