تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يَقْصِدْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا كَانُوا يَأْتُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُقَالُ: إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ هُوَ سَنَّ لَهُمْ إتْيَانَهُ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ فَهَذِهِ تُغْنِي عَنْ إتْيَانِ حِرَاءٍ بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ". اهـ

وقل مثل ذلك في الغلو في معاني عملية سامية كالجهاد في سبيل الله، فإن ذلك قد حمل الخوارج على الخروج برسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو باب دقيق، لا يلجه إلا راسخ في الديانة وإلا أفسد أعظم مما يصلح، فارتفعت منكرات صغرى بمنكرات عظمى، وذلك ضد مراد الشارع، عز وجل، وضد ما اطرد من طريقة الأنبياء عليهم السلام فإنهم، كما تقدم في أكثر من موضع، حملة ميزان العدل الذي نزل به الوحي، فبه توزن الأقوال والأعمال والأحوال صحة وفسادا فلا يقدمن عاقل على قول أو عمل حتى يزنه بذلك الميزان الدقيق لينظر أرجح أم طاش.

&&&&&

وإجمالا يمكن تلخيص خصائص فلسفتهم الأخلاقية في نقاط أبرزها:

أولا: الاهتمام بتربية النفس، وهو أصل صحيح وقع فيه الغلو من جهة أخذها بالعزائم بل بالرياضات المجهدة المهلكة لقواها، فلم يعرف أهل الطريق الرخص مع كونها مما يرضي الرب، جل وعلا، إتيانها، على وزان حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، مرفوعا: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ". وحديث عمر، رضي الله عنه، في رخصة القصر وقد زال سببها فأمن الناس من الخوف، وفيه: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" والكريم، كما يقول بعض المحققين، يغضب إذا رد أحد عطيته ولله المثل الأعلى.

وفي ذلك يقول أحد أئمة أهل الطريق: ما هذا الأمر إلا ببذل الروح!، وهو ما لم يأمر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه، رضي الله عنهم، ابتداء، فحفظ النفس من الضروريات الخمس في هذه الشريعة فلا تبذل إلا إذا كان في بذلها ظهور معتبر لأهل الإسلام ونكاية موجعة في أهل الكفران على تفصيل في ذلك.

ويقول الجنيد رحمه الله:

"ما أخذنا التصوف عن القيل والقال ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات مع أنه القائل: "طريقنا مضبوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به"

فعارض الجوع إن عرض لصائم فهو من باب المشقة العارضة فليست أصلا في التكليف، إذ المشقة غير مرادة لذاتها، فذلك غلو ترده أصول الشريعة الحنيفية السمحة، فلا يكون في تقصده على وجه يخرج النفس والمزاج عن حد الاعتدال طلبا لتهذيب النفس: مقصد شرعي معتبر، بل ذلك مما يذم فاعله لمخالفته الطريقة الشرعية وغايته أن يعذر لتأوله واجتهاده في تهذيب نفسه على سبيل الديانة.

يقول الغزالي رحمه الله:

"وأخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات، وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشرطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعانا، كذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها، وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا، فعلمت يقينا أنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال". اهـ

والحال ترجمان القول فلا ينفك حال عملي عن قول علمي فلا بد أن يصحح السالك أول منازل الطريق بالاغتذاء بعلوم النبوات النافعة ليكون حاله مستقيما، فإذا غلب جانب العمل على العلم وقع في جنس ما وقع فيه رهبان النصارى من الإحداث في الملة مبالغة في التعبد على غير هدى لضعف القوة العلمية المرشدة، فهو من اهل الضلال في العمل.

ثانيا: قولهم بإمكان تغيير الأخلاق الجبلية، فمجاهدة النفس أصل في نفي الأخلاق المذمومة واكتساب الأخلاق المحمودة، وهو أمر صحيح وإنما وقع الخلاف، أيضا، في طرائق تلك المجاهدة، فالقول صحيح، وإنما يقع الافتراق في الصفة التي يتوسل بها إليه، هل هي شرعية أو محدثة؟

ثالثا: اهتمامهم البالغ بتحرير النوايا وذلك مما يحمد لهم فإن العمل قد تكون صورته واحدة، مع البون الشاسع في الحقائق، فيقوم بقلب فاعل جملة من النوايا الصالحة، ولا يخطر ببال آخر نية واحدة فهو عنده محض عادة جبلية، بل قد تخرج عباداته أحيانا إلى حد العادة مع طول التكرار، فكيف بالمباحات ومعنى التعبد فيها غير لازم بل هو مما يطرأ عليها باستحضار المكلف لها حال مباشرتها، وتفاوت الناس في هذا الباب فرع عن تفاوتهم في العلم على ما اطرد مرارا من كون العلم أول المنازل في طريق الهجرة إلى الرب، جل وعلا، فهو خير زاد للعبد في ذلك السفر الشريف.

رابعا: اهتمامهم بالجانب الأخلاقي إيجابا باكتساب الفضائل وسلبا بنفي الرذائل فبسط المحققون منهم كالحارث المحاسبي، رحمه الله، القول في أمراض النفوس وآفاتها بسطا دقيقا لطيفا، كما أشار إلى ذلك الغزالي، رحمه الله، بقوله: "والمحاسبي، رحمه الله، حبر الأمة في علم المعاملة، وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات، وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه".

والشاهد أن فلسفتهم الأخلاقية لا تقبل بإطلاق ولا ترد بإطلاق بل تعرض كسائر المقالات العلمية والأحوال العملية على نصوص الشريعة، فإن وافقتها قبلت، وإن خالفتها ردت، فميزان الوحي هو الحكم في مثل تلك المضايق.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير