تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقالوا بناء على ذلك: إن الإنسان مكلف قبل ورود الشرع، حيث قالوا: إنه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وأن يعلم أيضا حسن الحسن وقبح القبيح، ويجب عليه الإقدام على الحسن، والإعراض عن القبيح كل ذلك يجب قبل ورود الشرع به، فإن قصر في ذلك استوجب العقوبة أبدا.

وأما نفاة التعليل من المتكلمين فقد نفوا التحسين والتقبيح جملة وتفصيلا فجعلوا ذلك للشرع وحده، فليس للفعل في نفسه حكم بحسن أو قبح يدركه العقل قبل ورود الشرع به، فالفعل ولو كان قبحه ظاهرا كالكفر والقتل والزنى، لا يحكم له بالقبح قبل ورود الشرع بتقبيحه، وقد نسب الشهرستاني، رحمه الله، هذا القول لعموم أهل السنة دون تفصيل، فهو قول المتكلمة الصفاتية الذين يدخلون في عموم أهل السنة إجمالا، على تفصيل في ذلك، فليس قول أهل السنة المحضة الذين يثبتون للعقل قدرة عل التحسين والتقبيح فيخالفون نفاة التعليل من هذا الوجه، ولكنه مع ذلك لا يصلح أن يكون مناطا للثواب أو العقاب فلا تكليف إلا بعد ورود الشرائع، فيخالفون بذلك المعتزلة فهم وسط بين الفريقين، كما أنهم في باب التعليل: وسط بين المعتزلة الذين غلوا فأثبتوا حكمة من جنس حكمة البشر، والمتكلمين الذين جفوا فنفوا الحكمة وردوا الأمر إلى المشيئة المحضة.

وقد أداهم الغلو في إثبات الحكمة والعدل إلى الجفاء في القدرة والخلق فجعلوا العبد فاعلا للفعل على حد الاستقلال، فنفوا خلق الأفعال الاختيارية عن الله، عز وجل، على تفصيل في ذلك، فمنهم من نفى عموم خلقه جل وعلا لكل فعل اختياري في الكون ولو صدر من غير مكلف، ومنهم من نفى عموم خلقه جل وعلا لكل أفعال المكلفين الاختيارية ليصح التكليف، ومنهم من نفى خلقه، عز وجل، لأفعال الشر خصوصا، وهو، أيضا، أثر من آثار قياس فعل الخالق، عز وجل، على فعل المخلوق، قياس تمثيل، إذ لا يتصور أصحاب هذا القول أن يخلق الرب، جل وعلا، فعل العبد، ثم يكون العبد بعد ذلك غير مجبور عليه، فجهة الخلق والجبر عندهم واحدة قياسا على الشاهد إذ لا يتصور في عالم الشهادة: حمل مكلف لمكلف على فعل ما دون أن يكون المحمول مجبورا، فلا يصح ذلك في حق الخالق، عز وجل، قياسا على المخلوق، وذلك، كما تقدم، قياس مع الفارق، إذ الرب، جل وعلا، ليس كمثله شيء في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وخلقه من أفعاله، فليس فعله بخلق فعل العبد كفعل المخلوق بإجبار مخلوق آخر على الفعل، فجهة الخلق غير جهة الفعل، فلا يلزم من خلقه، تبارك وتعالى، لأفعال المكلفين أنه هو الذي فعلها بإرادته، فلا إرادة مؤثرة لهم، فيسقط تكليفهم، فيلزم من ذلك نفي الخلق عنه ليصح التكليف كما التزم المعتزلة، بل الجهة منفكة، كما يقول علماء الأصول، فجهة الخلق غير جهة الفعل، فالرب، جل وعلا، قد خلق أفعال المكلفين بإرادته الكونية النافذة فهي متعلق قدرته، وخاطبهم بالتكليف بإرادته الشرعية الحاكمة فهي متعلق حكمته، وخلق لهم إرادات اختيارية بها يفعلون بلا جبر أو إكراه، وخلق فيهم طاقة الفعل فصحح لهم آلاته فتلك الاستطاعة الشرعية التي يتعلق بها التكليف، وخلق فيهم الفعل نفسه، فهو خالق الأعيان وما يقوم بها من الأفعال والأحوال، فتقع مفعولاتهم تأويلا لما قضى عليهم في علمه الأزلي، فهو الخالق وهم الفاعلون، وإنما يصح إلزام المعتزلة لمن أثبت القدر لو كان هو الفاعل وهم المنفعلون كما قالت بذلك الجبرية، وقولهم على الضد من قول المعتزلة، وهو فرع عما تقدم من الخلاف بين المعتزلة الذين غلوا في جانب الحكمة حتى أثبتوا حكمة تضاهي حكمة البشر وجفوا في جانب القدرة فنفوا خلق الله عز وجل لأفعال المكلفين، والمتكلمين الذين جفوا في جانب الحكمة فنفوا التعليل بها وردوا الأمر إلى المشيئة المحضة وغلوا في إثبات القدر حتى جعلوا الله عز وجل هو الفاعل حقيقة فالمكلف يقوم به الفعل الاختياري كالصلاة قيام الفعل الاضطراري كالموت فالجهة عندهم واحدة، أو هو فاعل بإرادة اقترانية لإرادة الله، عز وجل، دون أن تؤثر في إيقاع الفعل، فيحدث الفعل عندها لا بها كسبا للعبد لا فعلا، كما قال أصحاب نظرية "الكسب".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير