تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأما أهل السنة فقد جمعوا ما عند الطائفيتن من الحق: فالرب، جل وعلا، يفعل بحكمة كما قالت الطائفة الأولى، ولكنها حكمة بالغة ليست من جنس حكمة البشر القاصرة، ويفعل بقدرة نافذة كما قالت الطائفة الثانية، ولكن لا يلزم من إثباتها نفي قدرة المخلوق، فللمخلوق قدرة مخلوقة مثله بها يقع الفعل اختيارا، فيكون الفاعل والقدرة التي يقع بها الفعل والفعل نفسه، كل أولئك من خلق الرب تبارك وتعالى.

وقد أدى ذلك إلى الغلو في مسائل من قبيل:

عدم القول بانفكاك الجهة في مسائل كالصلاة في الأرض المغصوبة، والذبح بسكين مغصوبة فالجهة منفكة، فتصح الصلاة ويصح الذبح، وإن كان المصلي والذابح آثما من جهة الغصب لا من جهة فعل الصلاة أو الذبح، والمسألة مبسوطة في كتب الأصول، فمن العلماء من قال بأنها مسقطة للأداء ولا ثواب فيها، ومنهم من قال بأن الأداء يسقط عندها لا بها.

وعدم قبول التوبة إلا إن كانت عامة من جميع الذنوب والصحيح من كلام المحققين: أن التوبة تصح باعتبار أجناس الذنوب لا أفرادها فمن تلبس بجنس القتل، وجنس شرب المسكر، على سبيل المثال، فإن توبته من جنس القتل دون جنس شرب المسكر صحيحة، خلاف ما لو تاب من شرب نوع من أنواع المسكر دون بقية الأنواع، فإنه توبته من جنس المعصية غير صحيحة، إذ تلبس بفرد منها يتحقق فيه معناها الكلي، فالمسكر جنس كلي اعتبر فيه وصف الإسكار فهو العلة المؤثرة في التحريم، وذلك معنى كلي يصدق في كل مائع أو جامد يذهب العقل، فكان كليا من هذا الوجه، فيوجد مطلقا في الذهن، ومقيدا خارجه بأفراده فيصدق على كل فرد منها أنه مسكر فلا يكون التائب من شرب بعض دون بعض قد تاب من شرب المسكر، كما أشار إلى ذلك النووي، رحمه الله، في "شرح مسلم".

قال ابن القيم، رحمه الله، في "مدارج السالكين":

"والذي عندي في هذه المسألة: أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه: فتصح كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإن توبته من الربا صحيحة وأما إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه أو بالعكس أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو بالعكس: فهذا لا تصح توبته وهو كمن يتوب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها غير تائب منها أو تاب من شرب عصير العنب المسكر وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر بخلاف من عدل عن معصية إلى معصية أخرى غيرها في الجنس إما لأن وزرها أخف وإما لغلبة دواعي الطبع إليها وقهر سلطان شهوتها له وإما لأن أسبابها حاضرة لديه عتيدة لا يحتاج إلى استدعائها بخلاف معصية يحتاج إلى استدعاء أسبابها وإما لاستحواذ قرنائه وخلطائه عليه فلا يدعونه يتوب منها وله بينهم حظوة بها و جاه فلا تطاوعه نفسه على إفساد جاهه بالتوبة كما قال أبو نواس لأبي العتاهية وقد لامه على تهتكه في المعاصي:

أتراني يا عتاهي تاركا تلك الملاهي ******* أتراني مفسدا بالنسك عند القوم جاهي

فمثل هذا إذا تاب من قتل النفس وسرقة أموال المعصومين وأكل أموال اليتامى ولم يتب من شرب الخمر والفاحشة: صحت توبته مما تاب منه ولم يؤاخذ به وبقي مؤاخذا بما هو مصر عليه والله أعلم". اهـ

#####

ومن افتراءات المستشرقين في هذا الباب:

قولهم بأن الفكر الإسلامي لم يتناول الجانب الأخلاقي بالقدر الواجب فليس في الإسلام منهج أخلاقي متكامل!، وتلك فرية باردة ينقضها الحصر التوكيدي في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فلم يقل صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأتمم الأخلاق، بل بعثت ليمم أشرف أجناسها، وفي رواية: "إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال"، فهي مئنة من تأثير هذه الأخلاق في الواقع فلها أثرا ظاهر في أفعال صاحبها، والسنة النبوية حافلة بالأقوال والمواقف التربوية التي ظهر فيها حرص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على تزكية أصحابه، رضي الله عنهم، بمكارم الأخلاق، فهو يأمرهم بالتكافل: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير