تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولم يفرض الإسلام قيودا عقلية على البحث العلمي التجريبي، وإنما فرض قيودا صارمة على أحكام الديانة: علوما وأعمالا، صيانه لمقام النبوة، فإن علومها على حد العصمة فلا تقبل المعارضة بقياس عقلي مضطرب، فإن العقل يعمل بكفاءة في ميدان الطبيعيات التجريبية إذ سننها مدركة بالحس الظاهر، فيتلقى الحس معلومه من عالم الشهادة، وتعمل قوى العقل الباطن في تحليله واستنباط النتائج منه في مسلك تحليلي استنباطي عملي فعال بعيدا عن تجريد النظريات بلا أمثلة مدركة في عالم الشهادة، كما اطرد في طرائق فلاسفة اليونان، التي لم تقدم للبشرية في الإلهيات زادا نافعا، وإنما كان ميدانها الطبيعيات، ولذلك لم يجد المسلمون غضاضة في نقل علوم اليونان الطبيعية، وإنما وجد المحققون من أهل الديانة الغضاضة في ترجمة الإلهيات اليونانية الجارية على حد قياس عقل وثني مضطرب، زل في عامة مسائل الإلهيات لافتقاره إلى زاد النبوات، إذ لم يكن له، كما تقدم، منها نصيب، فلا يعمل العقل في الإلهيات إلا تابعا مقلدا لنقل النبوات، إذ قد أتت بأمر خارج عن طوره، فله مدارك محدودة، لا تستقل بإدراك حقيقة المغيبات، ولو كانت نسبية، فكيف بالمغيبات المطلقة من الحقائق الإلهية، فليس له منها إلا إدراك المعاني الكلية الجامعة، وتلك معان مطلقة عن التقييد لا وجود لها في الخارج ولا مثيل، ليصح قياسها على غيرها من المحسوسات المدركة، فإن الله، عز وجل، لا تدرك حقائق أوصافه في عالم الشهادة، بل لا يحاط بها في دار الجزاء، وإنما غاية نعيم أهل الجنة إدراك حقيقة ذاته وصفاته بالنظر إليه، جل وعلا، لا على حد الإحاطة، فلا يحيط به شيء من خلقه، إذ لا يحيط المخلوق بالخالق بداهة!

فالعلوم الإسلامية: علوم محكمة فتحت آفاق العقول إلى تصحيح أول المنازل، فلما صحت العقائد صحت أصول الطرائق العقلية الفكرية، فأمن جانبها إذ لا يتولد عن عقل تزكى بمنهاج النبوة فصح معلومه ومعقوله، لا يتولد عن عقل هذا وصفه إلا علم نافع وعمل صالح يصلح به المعاش الحالي والمعاد الآتي، فتلك مما امتازت به النبوات عن سائر الطرائق الأرضية، فهي للأولى عامرة وللآخرة حافظة، بخلاف الطرائق الأرضية التي لا تقيم دنيا ولا تحفظ دينا، وإنما غايتها أن يتمتع أتباعها بخلاق زائل، مع هرج ظاهر، لغياب الوحي العاصم، فنظرتها قاصرة لا تستقل بإدراك المآلات على حد اليقين، ولا تعرف عين المصلحة على وجه التحقيق، فكم من مصالح عاجلة يحصلها أرباب العقول القاصرة فتنقلب بعد حين إلى مفاسد خالصة، فيتبدل حكم العقل بتبدل الحال، فضلا عن اضطرابه في التحسين والتقبيح، وإن كان مفطورا على تحسين الحسن، وتقبيح القبيح، إجمالا، إلا أنه يعرض له من عوارض النقص والتغير ما يفسد حكمه، فهوى غالب يرى القبيح حسنا إذا كان فيه تحصيل لذة عاجلة، وفساد يعتريه بمقتضى سنة الكبر والهرم الكونية، فلا يصلح من هذا وصفه حكما في المنازعات، وإنما السلامة، كل السلامة في رد الأمر إلى حكم الشرع فهو الحافظ للعقل من نوازع الطغيان والإفساد، وقد أعملت أوروبا وأمريكا عقولها في سنن الكون، فكان لها بمقتضى سنة الثواب والعقاب، سنة: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ)، ما تتمتع به الآن من خلاق الدنيا، ولكنها لما أعرضت عن سنن الشرع انقلبت تلك النعمة في أحايين كثيرة نقمة على النوع الإنساني، فلم يمنع ذلك النظر الكوني من وقوع الحروب العالمية وإلقاء القنابل الذرية، إذ لم يأتمر بأمر نظر شرعي حاكم فهو قد بدل النبوة ابتداء، ثم أزال آثارها انتهاء بعد أن طغى كنهة الكنائس فثار العقل الأوروبي عليهم واستبدل الإلحاد بالإيمان الكنسي المحرف فانتقل من ظلمة إلى ظلمة أشد سوادا، وما حدث في السنوات الأخيرة من غزو همجي لبلاد المسلمين بآخر نتاج العقل الأوروبي الذي بلغ حد النضج في إقامة المدنيات، وبلغ حد السفه في هدم الحضارات الإنسانية، ما حدث في تلك السنوات خير شاهد على فساد العقل، وإن كان ذكيا، إن لم يتزك بالوحي الشرعي العاصم من الزلل، الباعث على البحث والنظر استصلاحا للأولى واستبقاء للآخرة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير