تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونظرة العقل الإسلامي إلى الإنسان: نظرة متكاملة، فالإنسان: روح تأمر وتنهى فلها التصور العلمي وبدن يمتثل فله التنفيذ العملي، فهو آلة التكليف، فليس إتلافها مرادا شرعيا إلا إذا كان في مقابل حفظ أصل أعظم، كإتلافها في ميادين الجهاد الشرعي المعتبر، وذلك بخلاف النصرانية التي جعلت إتلاف البدن انتصارا للروح منه غاية عظمى!، فتوهمت صراعا محتدما بين جزأي الإنسان فتولد من ذلك من الفساد والاضطراب ما تولد، إذ لا يستقيم حال المكلف إلا بصلاح شقيه: المعنوي والمادي، فمعنى بلا مبنى يقوم به: محض تصور عقلي لا وجود له في عالم الشهادة فهو عن حد السنن الكونية خارج، ومبنى بلا معنى: انحطاط بالإنسان من رتبة البشرية العاقلة إلى رتبة البهيمية التي تحصل ما يعرض لها من اللذات دون نظر في المآلات.

وذلك أيضا: بخلاف اليهودية المادية التي عظمت من شأن البدن وحقرت من شأن الروح، ولعلها في ذلك فرع عن الفلسفة الأرسطية التي احتقرت النوع الإنساني فلم تر فيه إلا أداة إنتاج مادي، فالعبيد: آلات تتنفس!، فليس لها من الآدمية ما يصيرها بشرا يحس ويتألم! وهي ذات الفلسفة المادية التي أقام عليها ماركس بنيان الشيوعية على شفا جرف هار يصادم العقول والفطر السوية، فالإنسان آلة تنتج في المصنع، فإذا تعطلت استبدلت، فمن لا يعمل لا يأكل!، فطعامه عند التأمل: وقود يعمل به، وبقدر إنتاجه يكون غذاؤه، مع تبجح الشيوعية بأنها ناصرة الجماهير والطبقات الكادحة وهي التي استرقتها في المصانع بعد أن استرقها الإقطاعيون من قبلها في المزارع، فالبشرية في رق المناهج الأرضية ما أعرضت عن وحي الرسالات السماوية، فتلك، أيضا، من السنن الكونية الجارية، فلا راحة للقلب والعقل والبدن إلا بالسير على منهاج الشرع المنزل.

والعلم في الإسلام ذو غاية محددة، فهو وعاء تحفظ به الأديان، بحفظ سنن الشرع، ووعاء تحفظ به الأبدان، باستكناه سنن الكون، فهو وسيلة وليس غاية، فلا يتوسل به إلى تحصيل نفع دنيوي من ترف للأبدان أو العقول على حد ما يظهر في أزمنة الرخاء من البحث والتنقير في دقائق المسائل التي لا جدوى من النظر فيها، وإنما هي مبالغة في التفريع وغلو في التجريد حتى يصبح البحث نظريا محضا لا يعود على صاحبه بالنفع في دين أو دنيا، على حد الفلسفات التجريدية التي عنيت بالمطلقات الذهنية دون نظر إلى أفرادها في الخارج.

فليس العلم في الإسلام غاية، وإن ثبتت له الغائية من وجه، فإن معنى الفاعلية لا ينفك عنه، فهو، دائما، وسيلة، ولو من وجه، فالعلم بالله، عز وجل، أشرف أجناس العلوم، إذ شرف العلم من شرف المعلوم، وذات الله، عز وجل، وأسماؤه وصفاته وأفعاله: أشرف المعلومات، فهو من هذا الوجه غاية، بل هو من أشرف الغايات التي يحصلها المكلف في دار الابتلاء، ولكنه ليس مرادا لذاته من كل وجه، فليس توحيد الربوبية بمنج لصاحبه إن لم يشفع بتوحيد الألوهية، فتوحيد العلم لا يكفي لحصول النجاة، وإلا نجا من جاء التنزيل بوصفهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، فقد تحقق لهم العلم، ولم تحصل لهم النجاة بذلك، إذ ليس العلم بمغن عن صاحبه حتى يشفع بالعمل.

يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "درء التعارض" في معرض بيان الفرق بين طريقة الرسالات السماوية وطريقة الفلسفات الأرضية:

"ما يذكره من المتفلسفة وأهل المنطق في ترتيب العلم وأسباب حصوله وما يذكرونه من الحدود والأقيسة والانتقالات الذهنية غايته - إذ كان صحيحا - أن يكون ذلك وصفا لما تسلكه طائفة معينة أما كون جميع بني آدم لا يحصل لهم العلم بمطالبهم إلا بهذه الطرق المعينة فهذا كلام باطل فحصر هؤلاء لمطلق العلم في ترتيب معين وحصر هؤلاء العلم بالله وبصدق رسله في ترتيب معين وحصر هؤلاء للوصول إلى الله في ترتيب معين كل هذا مع كونه في نفسه مشتملا على حق وباطل فالحق منه لا يوجب الحصر ولكن هو وصف قوم معينين وطرق العلم والأحوال وأسباب ذلك وترتيبه أوسع من أن تحصر في بعض هذه الطرائق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير