وأصدق شاهد على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم وسماع أخبار الناس في ذلك فهو يغني عن معاينة ذلك وتجريبه ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته". اهـ
بتصرف من: "الاستقامة"، ص318، 322، 324
وغاية ما يحصله أولئك من تلك المحبة المذمومة، أن يتلهى بها عن شر أعظم، كمن يتلهى عن المحرم بالمباح، وتلك مرتبة لا تتعلق بها همم أولي العزم، فصاحبها بمنزلة الطفل الذي يتلهى باللعب عن إفساد المتاع وإزعاج الآباء!.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وإذا كان كذلك فقد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة فينتقل إلى ما هو أقل منها شرا وأقرب إلى الخير فيكون حمد تلك الطريقة ومدحها لكونها طريقة الخير الممدوحة مثال ذلك: أن الظلم كله حرام مذموم فأعلاه الشرك فإن الشرك لظلم عظيم والله لا يغفر أن يشرك به وأوسطه ظلم العباد بالبغي والعدوان وأدناه ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله فإذا كان الرجل مشركا كافرا فأسلم باطنا وظاهرا بحيث صار مؤمنا وهو مع إسلامه يظلم الناس ويظلم نفسه فهو خير من أن يبقى على كفره ولو كان تاركا لذلك الظلم، (كمن يدخل الإسلام على طريقة مبتدعة فكونه مسلما مبتدعا، وإن كان فيه نوع فساد، خير من بقائه كافرا أصليا فذلك أعظم فسادا، فالشر في كليهما كائن، ولكن الشر دركات، فبعض الشر أهون من بعض) ............... وهكذا النحل التي فيها بدعة قد يكون الرجل جهميا قدريا فيصير جهميا غير قدري، أو قدريا غير جهمي، أو يكون من الجهمية الكبار فيتجهم في بعض الصفات دون بعض ونحو ذلك. (وذلك جار أيضا على المعاصي فإن من انتقل من معصية عظمى إلى صغرى فهو أحسن حالا من المقيم على المعصية العظمى، وإن لحق الذم كليهما).
فهؤلاء المتفلسفة ونحوهم ممن مدح العشق والغناء ونحو ذلك وجعلوه مما يستعينون به على رياضة أنفسهم وتهذيبها وصلاحها من هذا الباب فإن هؤلاء في طريقهم من الشرك والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال فإن المتفلسفة قد يعبدون الأوثان والشمس والقمر ونحو ذلك فإذا صار أحدهم يروض نفسه بالعشق لعبادة الله وحده أو رياضة مطلقة لا يعبد فيها غير الله كان ذلك خيرا له من أن يعبد غير الله.
وكذلك الاتحادية الذين يجعلون الله هو الوجود المطلق أو يقولون إنه يحل في الصور الجميلة متى تاب الرجل منهم من هذا وصار يسكن نفسه بعشق بعض الصور وهو لا يعبد إلا الله وحده كانت هذه الحال خيرا من تلك الحال". اهـ
بتصرف من: "الاستقامة"، ص328، 329.
ومثله القارئ في كتب الفلاسفة الإسلاميين وفيها من الضلال في باب الإلهيات ما قد علم، فهي، كما تقدم، قد سلكت في العلم والعمل غير طريق النبوات، فهما على رسم المضادة والمحادة، ومع ذلك قد تفيد قراءتها الملحد فتقربه إلى الإسلام، وإن لم يصر بها مسلما، فحسبه منها أنه عرف المصطلحات الإسلامية التي كسا بها الفلاسفة عوراتهم، فاستعاروا الألفاظ الصحيحة لمعان باطلة!. فقد هذب ابن سينا وشيعته فلسفة اليونان فقربوها إلى الأديان، كما يقول ابن كثير، رحمه الله، ولكنها لم تصر بذلك ملة ينجو معتنقها، وإن اقترب من الإسلام على النحو المتقدم.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في معرض نقد طريقة الغزالي، رحمه الله، في تقرير النبوات:
"وما ذكره أبو حامد فيه من تقرير النبوة في الجملة على الأصول التي يسلمها المتفلسفة ويعرفونها ما ينتفع به من كان متفلسفا محضا فإن ذلك يوجب أن يدخل في الإسلام نوع دخول وكلام أبي حامد في هذا ونحوه يصلح أن يكون برزخا بين المتفلسفة وبين أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى فالمتفلسفة تنتفع به حيث يصير عندهم من الإيمان والعلم ما لا يحصل لهم بمجرد الفلسفة.
وأما من كان مسلما يريد أن يستكمل العلم والإيمان فإن ذلك يضره من وجه ويرده عن كثير من كمال الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وإن كان ينفعه من حيث يحول بينه وبين الفلسفة المحضة إلا أن يكون حسن الظن بالفلسفة دون أصول الإسلام فإنه يخرجه إلى الإلحاد المحض كما أصاب ابن عربي الطائي وابن سبعين وأمثالهما". اهـ
"شرح الأصفهانية"، ص312.
والشاهد أن فساد التصور يؤدي حتما إلى فساد الحكم في الإلهيات والشرعيات بل والعاديات، ومن الصور البارزة في واقعنا المعاصر:
¥