تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن صور الغيرة: صورة دقيقة يغار فيها الباري، عز وجل، على الحق أن يضعه في غير أهله، فإن ذلك غير جار على سنن الحكمة الربانية، فوضع الشيء في غير موضعه سفه يتنزه عنه آحاد الحكماء من البشر، ويتنزه عنه الرسل عليهم السلام: أحكم البشر، إذ بعثوا بأصدق الأخبار وأعدل الأحكام، فلا يضع الله، عز وجل، الحق في محل كقلب أبي جهل ويحجبه عن محل كقلب أبي بكر، رضي الله عنه، فغيرته، عز وجل، على الحق الذي بعث به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تأبى ذلك.

فالحق، عزيز يغار الله، عز وجل، عليه فلا يمنحه إلا من يستحق، وذلك أمر مطرد في كل الأعصار والأمصار، فلما التزم صدر هذه الأمة بالوحي، فعظموا شعائر الرب، جل وعلا، بتصديق خبره وامتثال أمره ونهيه، صاروا أهلا ومحلا قابلا لقبول الوعد الإلهي، ولما حقر الخلف شعائر الرب، جل وعلا، بلسان الحال بل بلسان المقال أحيانا، كما هو مشاهد في الأعصار المتأخرة، صاروا محلا فاسدا يغار الرب، جل وعلا، على الحق أن يضعه فيه فذلك غير جار على ما تقدم من سنن الحكمة الربانية بوضع الشيء في موضعه، فإن للحق محالا، وللباطل محالا، فإذا وضع أحدهما في محل الآخر اختل ميزان العدل، وذلك معنى منتف في حق الرب، جل وعلا، بداهة، فالله، عز وجل، قد بعث الرسل بالكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ومن لازم ذلك ألا يسوى بينهم في الأحكام فرعا عن تباينهم في الأوصاف، فلا يستوي عالم وجاهل، أو عابد وفاجر، بل قد جعل الله، عز وجل، لكل شيء قدرا.

فيغار الله، عز وجل، على الحق، فيمنعه بمقتضى عدله الذي نزل الميزان لإقامته، يمنعه من ليس له بأهل، وإن لم يمنعه هداية الدلالة والإرشاد إليه، فذلك من إقامة الحجة الرسالية، فإقامتها داخلة في حد العدل، إذ قطعت بها معاذير المكذبين، فخوطبوا بالأمر الشرعي، وحجبوا بالأمر الكوني غيرة على الشرع أن يحل في محال ليست له أهلا. فهي غيرة لا يحتج بها على إبطال الأمر الشرعي فيكون الكافر أو الفاجر بها معذورا، فمتعلقها الأمر الكوني، وليس ذلك للعبد ليشغل نفسه به، أو ليصح احتجاجه به، فإنه ما خوطب بمقتضاه ليصير فعله مرضيا للرب، عز وجل، في كل حال، وإنما خوطب بالأمر الشرعي فلزمه السعي في تحصيل أسبابه، وبقي السير متوقفا على إرادة الرب، عز وجل، التيسير، فييسر كلا إلى ما يلائمه، فذلك مقتضى الحكمة آنفة الذكر، فغيرته ليست كغيرة غيره: غيرة ظلم وتعد، إذ لم يمنع الله، عز وجل، من كفر أو فجر حقا كان له، لتصح دعوى الظلم أو التعدي، فإن الغيرة البشرية لا تنفك عن نوع افتقار يحمل صاحبها على التعدي سدا لحاجته، وذلك معنى منتف في حق الرب، جل وعلا، بداهة.

فلا بد من التمييز بين الأمر الشرعي والأمر الكوني، فالأمر الشرعي مبذول لكل مكلف على حد الإرشاد، فذلك عدله، عز وجل، بخلاف أمره الكوني الذي يحجب به من شاء عدلا، ويصطفي من شاء فضلا، فتكون مراضيه محفوظة من أن تنالها نفس دنيئة، فهي أجل من أن تحل في محال القذر والدنس، فلا تحل إلا محال الطهر والقدس.

فمن وجد في نفسه همة إلى معالي الأمور ووجد في بدنه قوة على الفعل، فليبادر في هذه الأيام الطيبات، وليحسن الظن برب الأرض والسماوات، فلعله من المحال التي اصطفاها الله، عز وجل، لطاعته، وليحرص ألا يسقط من عينه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فلا ينفك مكلف عن حال نقص بل أحوال!، وما شرع الاستغفار إلا إزالةً لتلك الآثار المانعة من قبول مادة الصلاح، فإذا استغفر العبد طهر المحل، فاقتضت الحكمة والفضل ألا يمنع آثار الوحي، وإن غقل وتمادى في الغي، دنس المحل فاقتضت الحكمة والعدل أن يغار الرب، عز وجل، على الحق فيمنعه محلا هكذا حاله، ولكل حال ما يلائمه ولكل مقام مقال يناسبه.

وشاهد هذه الغيرة من التنزيل آيات من قبيل:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير